رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

هارب إلى الموت

عمر حبيب
عمر حبيب


باعت أمه قرطها الذهبي ، ذلك القرط الغالي النفيس ، ليس في ثمنه ، بل في قيمته بالنسبة لها .. فقد كان آخر هدية لها من المرحوم والده قبل وفاته .

كان عزيز عليها بدرجة كبيرة ، ولكن ليس أعز من عايش .. ولا شيء يكثرعلى عايش ، فهو كل ما خرجت به من حطام الدنيا .. هو والقرط .

باعت أم عايش قرطها ، وباعت معه الذكريات .. الأيام الجميلة و رائحة الماضي التي تعيش عليها كل يوم و تغمض جفونها كل مساء و بجوارها صورة زوجها الذي عاشت معه ، وله .

باعت كل هذا ، و وضعت حفنة ألاف من الجنيهات في يد عايش ، وضعتها في يده ولم تنطق بكلمة واحدة ، ولكن دموعها كانت كفيلة بكل شيء ؛ نقلت كل الكلام الذي لا يستطيع قوله أي إنسان مهما بلغت طلاقته وفصاحته .. لم يقل لسانها أي شيء سوى كلمتين فقط حينما جفت دموعها .. ربنا معاك .

غادر عايش المنزل وفي يده حقيبته .. بها ملابسه ، أدواته ، صوره ، ذكرياته .. وأيضا أحزانه .

رحل عايش ليحمل معه أحزانه ، ليحملها إلى مكان آخر ، مكان بعيد .. مكان لا أحد يعرفه فيه ، ليبدأ حياته التي لم تبدأ بعد .. تاركا وراءه الأم ، والأرض ، والوطن .

وصل عايش إلى الميناء ، وأمامه ذلك البحر الواسع الفسيح و من بعده المجهول .. وجد على رصيف الميناء تلك السفينة الضخمة المهولة ، تكاد تحجب الرؤية وراءها .. إنها عالم آخر .. إنها مدينة بأكملها .. مدينة تتحرك على صفحة الماء .

لا ، ليست تلك هي السفينة يا عايش .. ليست تلك السفينة التي ستحملك إلى ما وراء البحار ، فأنت لا تساوي أكثر من بعوضة على تلك السفينة الفارهة .. بل هو ذلك القارب الصغير بجوارها .. هذا القارب هو الذي سيحملك في تلك الليلة الباردة وسط أهوال وأخطار البحر ، ذلك القارب يا عايش هو وسيلتك .. وسيلتك إلى المجهول .

كان على متن ذلك القارب الصغير ما يقرب من خمسين شابا أعمارهم في مثل عمر عايش .. الكل خائف ، الكل تائه .. الكل هارب .

الكل هارب .. لا تعلم هارب من المكان ؟ .. أم هارب من الزمان ؟ .. أم هارب بلا طريق أو عنوان ؟ .

تحرك القارب ، ببطء شديد ، وضعف شديد .. والكل متكدسون ، متراصون على متنه كالماشية .. كل واحد يحتضن حقيبته بقوة ، كل واحد مرتديا قميص النجاة .. نجاة !! ..أي نجاة ؟؟ .

القارب كالطفل الصغير الذي يتعلم دروسه الأولى في الطفو والسباحة ، تتلاعب به الأمواج ، تقذفه لأعلى تارة ، وتقذفه لأسفل تارة ، و تصفعه يمنة ويسرة تارة أخرى .

البرد قارس شديد ، وكل شيء حولهم في سواد .. السماء سوداء ، والمياه سوداء ، والوجوه سوداء .. حتى القلوب سوداء .. ولعل هذا السواد هو سبب الهروب .

كانت السماء مرتعدة .. وميض البرق يشقها كالسيوف ، واختلطت السيول المنهمرة بدموع الخائفين .. وكأن الطبيعة أرادت أن تغضب هي الأخرى في تلك الليلة .

لم يتحمل ذلك القارب الصغير الضعيف كل تلك النوبات من الغضب .. ظل القارب يقاوم ويقاوم .. ظل يقاوم وعلى متنه كل هؤلاء الشباب .. كل هذه الذكريات .. كل هذا الخوف .

ثارت الأمواج عليه أيضا ، أخذت تلاطمه وتصفعه بقوة ، كأنها تكرهه وتبغضه ، وتبغض كل من عليه .

لم يستطع القارب أن يستمر في مقاومته ، لم يقو على هذه الحرب الضارية الشرسة غير المتكافئة .. من منا يستطيع محاربة الطبيعة ؟ .. فما بالك بغضب الطبيعة ؟؟ .

تمزقت ألواح القارب ، تفككت تماما .. الواحد تلو الآخر ، وتمزق معها الركاب .. سقط الجميع في الماء ، لم يتحمل جسد القارب كل تلك الضربات المبرحة وسقط أشتاتا على صفحة الماء .

سقط الجميع ، وسقط عايش معهم ، يرتدي قميص النجاة .. لقد صنعوا قميصا للنجاة من الغرق ، لكنهم لم يصنعوا قميصا للنجاة من الموت .

مات عايش ، كما عاش ميتا .. سقط في البحر محتضنا صوره وذكرياته ، وكان آخر شيء يبرق أمام عينيه ليس وميض برق السماء ، بل دموع أم عايش قبل أن يفارقها ويفارق الوطن .

سقط عايش ليُدفن .. لا في قبر من تراب .. ولكن في قبر من ماء .