رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

«طاهرة».. قصة قصيرة

عمر حبيب
عمر حبيب


استقلت الحافلة .. نفس الأتوبيس الذي تركبه كل يوم و هي ذاهبة إلى مدرستها ، تحمل معها حقيبتها ، تحتضنها بقوة ، بحب ، بعطف .. كالأم التي تحتضن وليدها و تخشى عليه من قسوة الزمن و غدر الأيام .

كانت عيناها مليئتين بالأمل ، بالتفاؤل ، بالبراءة .. تلك البراءة التي تشع من عينيها كأشعة الشمس الذهبية .. فهي حقا من ذهب .. فتاة .. تلميذة .. جميلة .. طاهرة .

أخذت تشق طريقها بصعوبة وسط ذلك الأتوبيس المزدحم عن آخره حتى تصل إلى الكمسري لتعطيه أجرة التذكرة .. جنيهان ، جنيهان فقط هما السعر ، هما الثمن .. ثمن كل ما حدث .

جنيهان هما ثمن ركوبك الأتوبيس ، جنيهان هما ثمن وصولك لوجهتك ومقصدك ، جنيهان هما ثمن إنتقالك من النقطة أ إلى النقطة ب .

أخذت تذكرتها و أمسكتها بيدها .. أطبقت عليها بأصابعها الصغيرة الرقيقة خوفا من أن تنزلق و تفقدها .. كانت بريئة لدرجة مخيفة .. في زمن خلا من البراءة .

زحام داخل الأتوبيس ، و زحام خارج الأتوبيس .. بشر بداخله كيوم الحشر ، متلاصقون ، متلاحمون .. يتصببون عرقا .. وخارجه سيارات وبشر ، و مطبات تتلاعب به كأمواج البحر ، تقذفه لأعلى ولأسفل ، والكل يتأرجح معه ، وتتأرجح هي أيضا  ، محتضنة كتبها بيدها ، و ممسكة بتذكرتها باليد الأخرى .. عيونها خائفة .. تائهة .. قلقة .

ما الذي أتى بك إلى هنا يا صغيرتي ؟ .. هل هو القدر ؟ .. هل هو الحظ السيئ ؟ .. أم هل هو الشيطان ؟ .. ذلك الشيطان الذي بانتظارك .
تلك العيون البريئة الرقيقة .. تلك العيون الخائفة التائهة .. إزدادت خوفا وهلعا ، وعلا نظارتها شيء من الرعب والفزع .. و البراءة التي كانت تشع منها بدأت في الخفوت والإضمحلال .. كل ذلك حدث حينما شعرت بتسلل أصابع الشيطان إليها ، إلى ملابسها ، إلى جسدها .

شعرت بتسلل حوافره الغليظة القذرة و هي تخترق جسدها الطاهر العفيف ، وتسلب منها الطهر والعفة والبراءة .

حاولت أن تبتعد عنه ، حاولت أن تهرب منه ، و لكن إلى أين ! .. كلنا متكدسون ، كلنا متراصون بعضنا فوق البعض داخل تلك العلبة المعدنية اللعينة .. إلى أين تذهب طاهرة ؟ .. لا مفر .

كلما إبتعدت هي ، إقترب هو .. إقترب يشتم رائحتها كالذئب الذي يشتم فريسته قبل الإنقضاض عليها .. تجرحها حوافره ..  تطعنها نظراته .. تحرقها أنفاسه .

إنه الذئب .. الذئب الذي إستقل الحافلة في رحلة البحث عن فريسته ، القاتل الذي يطارد ضحيته حتى إن تمكن منها إفترسها ، وافترس فيها أنوثتها و عذوبتها و طهرها .

صرخت طاهرة .. صرخت بكل قوتها .. و بكل ضعفها أيضا .. صرخت أنقذوني ! .. أنقذوا براءتي .. أنقذوا طهارتي .. ها هو قاتلي .. ها هو الجاني .

و لكن من منا يسمعها ؟ .. من منا ينقذها ؟ .. فالكل أعمى ، أصم ، أبكم .. كلنا مثله ، كلنا هذا الذئب .. كلنا هذا الشيطان .

لقد تركناها له .. تركنا طاهرة لذئبها ، تركنا طاهرة لشيطانها .. تركنا طاهرة لمصيرها الأسود المحتوم .

سقطت حقيبة كتبها ، سقطت كتبك يا طاهرة .. تركناها تسقط كما تركناك تسقطين .. ضاعت كتبك كما ضاعت أحلامك .. أحلامك البسيطة البريئة .

تركناك للضياع ، تركناك و تغافلنا عنك ، إنشغلنا بأحوالنا وحياتنا المريرة الكريهة ، أدرنا لك ظهورنا لا من أجل ألا نراك .. بل من أجل ألا ترينا .. من أجل ألا تري في عيوننا العار ؛ ليس عارك .. بل عارنا نحن .

كلنا إفترسناك يا طاهرة .. كلنا قتلناك ، كلنا تحرشنا بك .. كلنا هذا الشيطان .. هو الشيطان ، وأنت الشيطان .. وأنا الشيطان .. أنا لا أرى ، لا أسمع ، لا أتكلم ، لا أشعر ، لا أحس ، لا أصرخ !! .

سقطت طاهرة ، وسقطنا جميعا معها , و مر الكمسري بيننا و هو ينادي : ورق .. تذاكر .. ورق .. تذاكر .

و حينما  اقترب من طاهرة ليسألها ، لم يجد معها شيء باق سوى تذكرة الأتوبيس التي أطبقت عليها أصابعها بقوة منذ البداية .. التذكرة ذات الجنيهين البائسين ! .

إنزلي هنا يا طاهرة .. غادري هذا الأتوبيس على الفور ، فنحن لا نستحقك ، وأنت لا تستحقينا .. لقد بعناك ، لقد خذلناك .. فأنت طاهرة في عالم مليء بنا .