رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

ماسح الأحذية

عمر حبيب
عمر حبيب


مثل كل صباح، أجلس على ذات الرصيف على باب الوزارة ، أمامي الصندوق الخشبي الكبير و قد أحطته بمختلف زجاجات وعلب الورنيش ، وبيدي الفرشاة .. أدق بها على جانب الصندوق مناديا : تمسح يا بيه ! .. ورنيش يا بيه ! .

تأتي أقدام ، و ترحل أقدام ، تزورني أحذية متنوعة كل يوم ، أضفي عليها لمسة ما ، لمستي الخاصة ، أحيلها من حال إلى حال ، ليست كل الأحذية التي تأتيني متسخة ، بل الأمر الغريب أن غالبيتها لا تحتاج إلى تنظيف أو تلميع .

لماذا تأتيني إذن ؟؟ .. هل السبب هو ثراء أصحابها و أن المال لا يعني لهم الكثير ، فيضحوا ببعض الفكة ويعطوها لي مقابل مسح أحذيتهم ؟ .. أم السبب هو الشك والوساوس التي تعتريهم خوفا من المشي بأحذية قد تكون غير لامعة من وجهة نظرهم ؟ .. أم لعل السبب هو رغبة أصحاب تلك الأحذية في التخلص من شيء ما قد حدث .. أمر حدث قبل مقابلتي يريدون مني أن أمحو أثره .. وصمة لابد أن تختفي من الذاكرة .

أحذية سوداء .. أحذية بنية .. أحذية بمقدمة عريضة .. أحذية بمقدمة ضيقة .. أحذية بكعب .. أحذية بدون كعب .. أحذية بأربطة .. أحذية بدون أربطة .. أحذية جلد طبيعي .. أحذية جلد صناعي .

أنا لا أنظر إلى وجوه زبائني ، ولا حتى عندما يدفعون الحساب .. أنا لا أحتاج للنظر إلى وجهك ، يكفيني فقط النظر إلى حذائك كي أعرفك .. أنظر إلى حذائك فأرى أتربة ، خدوش ، لون باهت ، آثار وعلامات .

أنظر إلى حذائك فأعلم أنك ذاهب إلى مقابلة عمل ، أعلم أنك هارب من شيء ما ، أعلم أنك ستمضي بعيدا ، أو ترحل قريبا .

أنظر إلى حذائك فأعلم أنك مسافر لوجهة ما ، أو أنك تائه لا تدري أين وجهتك ، أنظر إلى حذائك فأعلم جيدا أنك لاتمشي في شوارعنا كثيرا ، و أنك قلما تغادر سيارتك الفارهة .. أنظر إلى حذائك فأعلم أنك مطحون في طاحونة المواصلات العامة .. أنظر إلى حذائك فأعلم مهنتك .. أعلم أنك معلم تقف طوال اليوم على قدميك و لا تستريح ، أو أنك جندي و حذائك يمشي مشيته العسكرية ، أو أنك ساعي للبريد تجوب الطرقات وتطرق كل باب .. فأنا كضارب الودع .. كقارئ الطالع .. ولكنني أقرأ الأحذية .

فالأحذية بالنسبة لي هي كتابك ، عنوانك ، مرآتك ، أقرأها لأقرأك .

أقرأ الآن حذاء بيومي أفندي ، الموظف الكبير بالوزارة .. هم يدعونه بيومي بيه ، ولكن أنا أدعوه بيومي أفندي ( طبعا في سري دون أن يسمعني ) ، أقرأ يا بيومي أفندي في حذائك كل الخزي والعار .. أقرأ رشوة قادمة في الطريق إليك من أحد رجال الأعمال كي تتلاعب في أوراقه المقدمة بخصوص مشروع الأرض الوهمي .. حظا موفقا يا بيومي أفندي .. عفوا .. " مبروك على الأرض " يا بيومي بيه .

أقرأ الآن حذاءا آخر .. أقرأ حذاء الأستاذ عبد المجيد الذي يأتي يوميا منذ فترة كبيرة لإستعجال معاشه المتأخر ، حزينا مرهقا و للأسف يعود كما أتى .. حذاؤه باكيا .

أقرأ حذاء ذلك الشاب الوسيم ( أقصد بالوسيم هنا الحذاء وليس الشاب ، فأنا لا أنظر لوجوه زبائني ) .. ذلك الشاب الذي يأتي كل يوم في ذلك الوقت بالتحديد ليغازل الموظفة الشابة الجديدة التي تم تعيينها بقسم الحسابات و يأمل أن تخرج معه يوما أو تذهب معه لشقته .. أعلم ذلك جيدا لأنه قذر للغاية و غير نظيف بالمرة .. ( الشاب وليس الحذاء ) .

أقرأ حذاء هذا .. وأقرأ حذاء ذاك .. فلا تجعلني أقرأ حذاءك ، سوف تنكشف لي أسرارك بمسحة واحدة .

بمسحة واحدة سأزيل الغبار عن كل خباياك ، وسوف أراك على حقيقتك .. حقيقتك التي تخفيها عن الجميع ، حتى عن نفسك .

إن هؤلاء الناس حينما يأتون إليّ بأحذيتهم أيا كان نوعها أو حالتها ويريدون مني أن أمسحها وأنظفها جيدا لهم لا يكترثون بما أفعل .. هم فقط يريدون التخلص من كل ما علق بها من ماضيهم المخجل ، من كل ما إقترفتها أقدامهم في الطريق ، يريدون أن يمضوا في سبيلهم إلى المستقبل بعد أن يتخلصوا من كل ما فات ، لكن ما فاتهم حقيقة هو أنا ..

أنا قارئ الأحذية .. أنا ماسح الأحذية .. أمسح الأحذية و لكني لا أمسح الماضي ، فالماضي سيظل معك أينما ذهبت .. أينما بعدت .. أينما هربت .