رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «45»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب




الفصل السادس وتستمر الرحلة:



في نهاية هذه الرحلة الطويلة العريضة أسجد للمولى شكرًا أن حباني هذا القدر من نعمائه، منحني وطنًا أعشقه أعيش فيه ويعيش داخل كما قال قداسة البابا شنودة الراحل العظيم ومنحني أسرة ربطها الحب العميق الذي كان سندي في كثير من العواصف التي مرت في حياتي خاصة خلال سنوات الغربة التي طالت إلى ما يقرب من ربع قرن خارجها.



ومنحني جيلًا نشأت فيه كان همنا الأكبر مصر وما كان يمر بها من أعاصير سياسية لم تثنينا لحظة عن التعلق الشديد بها والاستعداد لأي تضحية في سبيلها جيلًا شاركته حلم رؤية مصرنا الحبيبة قوية مزدهرة، ثم تجرعت معه كثيرًا مرارة ضياع الحلم حتى كاد اليأس يصيب قلوبنا أحيانًا، وإذا بنا ونحن في أعماق اليأس نفيق على شمس ساطعة أضاءت حياتنا من جديد حينما قام جيل الأبناء فجأة بثورته الرائعة يوم 25 يناير 2011 الخالدة، وحقق المقولة الشهيرة أنه كلما اقترب الفجر اشتد الظلام.



أدهشنا جيل الأبناء في لحظة من أحلك اللحظات بشجاعته التي فاقت كل الحدود، وبعلمه الذي كسر به السدود ودخل به القرن الحادي والعشرين من أوسع أبوابه محطمًا إلى الأبد حاجز الخوف الذي طالما أعاق جيلنا عن الحركة في الاتجاه الصحيح.



أنحني إجلالًا أمام هذا الجيل العظيم الذي أتوقع أن يقود مصر إلى خلاصها الحقيقي بعد أن تتخلص من أدران التعصب والفكر المنغلق، ويقيم لنفسه ولأولاده من بعده وطنًا نفتخر به ونحمد المولى أننا نرى ملامحه الواضحة على الأفق قبل الرحيل، نرى مصرنا الحبيبة وقد تحررت من كل أدران التخلف الفكري والفقر المادي وعادت كما كانت دائمًا تاج العلاء في مفرق الشرق.



وأتمنى أن يقبل مني هذا الجيل العظيم تجربتي التي أقدمها له في تواضع وحب صادق، حيث أرى فيه شبابي وأملي يتحقق على يديه، وكنت أتمنى أن أضيف المزيد من الأحداث العاصفة التي مر بها وطني الحبيب ووجدت نفسي دون علم أو إرادة مني وسط بعضها، ولا أملك في هذا المجال إلا أن أمنع نفسي عن ذكر أحداث جسام مرت بي، لم تكن من صنعي أو بإرادتي هز بعضها وطني هزًا عند حدوثه، وتمنعني قواعد الأمن القومي لبلدي عن تفصيلها، وإن كان من حقي أن أشير إلى إطار حادثتين منها بالذات هزتاني هزًا عنيفًا.



كانت الأولى بروما في 17 نوفمبر 1964 وكنت أعمل مديرًا لمكتب مصر للطيران بها، وإذا بالبوليس الإيطالي يكتشف صندوقًا قبل صعوده على الطائرة المصرية به رجل مخطوف، وكان الرجل جاسوسًا إسرائيليًا، وكانت العملية في أسوأ أيام الحرب المخابراتية بين مصر وإسرائيل، ولم يكن لي أدنى علم بما يجري، وطردت السلطات الإيطالية الدبلوماسيين اللذين قاما بالعملية.



ولكن ذلك لم يكن يكفي لتهدئة ثائرة الرأي العام الإيطالي، فلابد من محاكمة وكنت الوحيد الذي لا يتمتع بحصانة دبلوماسية ويمكن محاكمته، فقرر النائب العام الإيطالي اعتقالي وتقديمي لمحكمة الجنايات باعتباري المسئول عن الطائرة التي كان سيشحن عليها الجاسوس المخطوف، وقبل بدء المحاكمة تدخل وزير خارجية مصر وقتها الراحل العظيم محمود رياض بما اشتهر به من مهارة دبلوماسية لم تكن تخلو من ليّ الذراع أحيانًا، فتم الإفراج عني واسقاط التهمة التي لم اشترك فيها أو أعلم بها - ولا يسعني هنا إلا أن أقرأ الفاتحة أرفع التحية إلى روح الراحل العظيم محمود رياض -.



وكانت الثانية في فجر 24 أكتوبر سنة 1985 خلال عملي بروما مرة ثانية إذ أيقظني العميد طيار أحمد شفيق الملحق العسكري برما وقتها (الفريق أحمد شفيق رئيس الوزراء ومرشح الرئاسة فيما بعد) وأخبرني أن إحدى طائرات مصر للطيران قد اختطفها إرهابيون من أثينا ونزلوا بها في مالطة.



ولما لم يكن لنا مكتب في مالطة، وكانت روما ثاني أقرب مكاتبنا من مالطة، فقد أسرعت على أول طائرة إلى مالطة ليكون هناك من يفعل ما يستطيع لمساعدة ركابنا الذي لا ذنب لهم، وبعد وصولي مالطة بثلاث ساعات تم اقتحام الطائرة من جنودنا ودارت معركة مع الإرهابيين الثلاثة انتهت بتحيط الطائرة تمامًا ووفاة ستين من ركابها الثمانين وأنا واقف على بعد ثلاثين مترًا من المأساة الدامية، ولا أذكر أنني قد بكيت في حياتي كلها كما بكيت يومها، فقد كان بين القتلى اثنان من أحب أصدقائي من طاقم الطائرة المنكوبة، وظللت يومين بلا نوم أو طعام مذهولًا استرجع الأحداث في رأسي.



في النهاية، فهمها كان الألم فالحياة تسير مادام هناك أمل، وأنا أضع كل أملي وأمنح كل حبي للجيل الجميل من الشباب الذي فجر لنا ثورة 25 يناير المجيدة.



وأكرر شكري في النهاية لصاحبة الفضل في تفجير فكرة هذا الكتاب بداخلي فأهديه إليها مع أرق مشاعري.



أحمد عز العرب

القاهرة في 27 / 3 / 2013