رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

«أتون القدر 39»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب



تأميم القناة وحرب 1956:



وما هي إلا خمسة أسابيع بعد جلاء آخر جندي بريطاني عن مصر حتى ضرب عبد الناصر ضربته السياسية التاريخية في 26 يوليو 1956 عندما أعلن في مؤتمر حاشد حضره مئات الألوف في ميدان المنشية بالإسكندرية تأميم شركة قناة السويس واستعادة مصر للقناة إدارة وملكية، وقع الخبر وقوع الصاعقة في لندن وباريس ووجدت فيه إسرائيل فرصة عمرها في إعادة احتلال أرض سيناء وتنفيذ مشروعاتها التوسعية أما أمريكا فكانت تعد للعبة كبرى سنوضحها بعد قليل.



أما الشارع العربي بين المحيط الأطلسي والخليج الفارسي فقد اشتعل في هستيريا كاملة من الحماس والروح الوطنية التي تفجرت لمقاومة النفوذ الغربي عمومًا بالمنطقة، وأصبح عبد الناصر بين غمضة عين وانتباهتها كما يقول المثل، زعيم العرب الأوحد وملكهم غير المتوج، ولم تجرؤ حكومة عربية واحدة من الحكومات الموالية للغرب مثل السعودية والعراق والأردن على معارضة الخطوة المصرية بتأميم قناة السويس حتى لا تسقط هذه الحكومات تحت أقام شعوبها الملتهبة بالثورة عندئذ ضد الغرب وعملائه.



كان الهدف الأمريكي الواضح بعد ذلك هو إخراج بريطانيا وفرنسا من المنطقة والحلول محلهما وليس خروج مصر من منطقة النفوذ العربي طبعًا.



حشدت بريطانيا وفرنسا جيشًا جرارًا في قبرص مزودًا بألف طائرة قتالية وأسطول بحري ضخم يحمل ثمانين ألف جندي بريطاني وفرنسي لمهاجمة مصر من البحر والجو في الوقت الذي حشدت فيه إسرائيل جيشها من الشرق لإعادة احتلال سيناء والوصول للضفة الغربية لقناة السويس في الوقت الذي تكون فيه قوات الاحتلال الانجلو فرنسية قد تمكنت من احتلال مدن القنال.



وبعد عدة محاولات فاشلة ومؤتمر دولي أكثر فشلًا في لندن لمحاولة حل المشكلة بالطرق الدبلوماسية وإقناع عبد الناصر بالعدول عن تأميم قناة السويس، تقرر بدء الهجوم العسكري وكانت ساعة الصفر عند غروب الشمس 29 أكتوبر سنة 1956 حيث قامت قوات المظلات الإسرائيلية بإسقاط رجالها فوق منطقة المضايق وسط سيناء لقطع طريق الانسحاب على الجيش المصري لو قرر التراجع نحو منطقة القنال ثم مهاجمته وتدميره من الخلف أو اضطراره للتسليم وكان المبرر الطفولي لتدخل انجلترا وفرنسا في القتال والذي لا يصدر من طفل في أولى سنوات تعليمه هو أن هجوم إسرائيل على سيناء يهدد الملاحة في قناة السويس.



ولما كانت الدولتان حريصتين على أمن القناة حماية للتجارة العالمية فقد أنذرتا كل من مصر وإسرائيل بسحب قواتهما عشرة كيلو مترات بعيدًا عن القناة، إسرائيل في الغرب ومصر في الشرق، وطلبتا من عبد الناصر السماح لقواتهما باحتلال نقاط على القناة لتأمين الملاحة بها، وأمهلتا مصر وإسرائيل ستة وثلاثين ساعة لتنفيذ الإنذار، وطبعًا أعلنت إسرائيل قبولها له وتنفيذه وطبعًا رفض عبد الناصر الإنذار وبدأ الهجوم الجوي البحري الشرس على بورسعيد وطوال قرابة أسبوع كامل من القنال عجزت القوات الغازية عن التقدم جنوب بورسعيد بسبب المقاومة المصرية المستميتة.



أما الجيش المصري في سيناء فقد تراجع سريعًا إلى الغرب ونجحت أغلبية القوات في عبور القناة إلى الغرب بينما سقط قتلى وأسرى في يد القوات الإسرائيلية.



في هذه الأثناء كانت الساحة السياسية الدولية تلغى، وأصدر مجلس الامن الدولي عدة قرارات لإيقاف القتال فورًا قبل أن يتحول إلى حرب كبرى في المنطقة تؤدي بدورها إلى حرب عالمية ثالثة، وحتى تبرر روسيا جدية تهديدها أرسلت إنذار هجوم ذري محتمل على لندن وباريس إن لم يتوقف العدوان وأعلنت أمريكا حالة تأهب نووي قصوى وتبدلت سماء العالم بغيوم حرب عالمية جديدة ذرية هذه المرة.



وسرعان ما استكملت أمريكا لعبتها فأنذرت المعتدين الثلاثة بالانسحاب من أرض مصر ونفذت بريطانيا وفرنسا انسحابهما قبل نهاية العام، أما إسرائيل فقد تأخر انسحابها بضعة أشهر ولم يتم قبل حصولها على التزام كتابي من عبد الناصر بفتح خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية أعطاه عبد الناصر لسكرتير عام الأمم المتحدة وقتها داج همرشولد وكان سحب عبد الناصر لتعهده وإغلاقه خليج العقبة بعد ذلك في مايو سنة 1967 هو السبب المباشر لقيام الحرب سنة 1967 كما أوضحنا في الفصل السابق.



بدأ عام 1954 بهجوم دبلوماسي أمريكي مكثف على المنطقة لسرعة حلول أمريكا محل بريطانيا وفرنسا فأطلق الرئيس الأمريكي ايزنهاور تصريحه الشهير بأن هناك فراغًا في الشرق الأوسط نتيجة انسحاب الدولتين الأوربيتين منه، وأنه يتعين ملؤه بترتيبات مشتركة تمنع العدوان الشيوعي المحتمل على المنطقة أي يريد ايزنهاور حلف بغداد جديد بزعامة أمريكا المباشرة هذه المرة.



وبدأت أمريكا ضغطًا هائلًا على الحكومات الموالية لها مثل السعودية والأردن والعراق والتي ساندت مصر خلال العدوان الثلاثي عليها نتيجة ضغط شعوبها ونجح الضغط سريعًا مع المرحوم الملك حسين ملك الأردن، فقام في ربيع سنة 1957 بإقالة سليمان النابلسي رئيس الوزراء الوطني الذي ساند مصر خلال العدوان عليها واستبدله بوزارة موالية تمامًا لأمريكا.



وخففت السعودية من تقاربها مع مصر أما سوريا التي ساعدت عبد الناصر لأقصى المدى خلال العدوان فقد بدأ الضباط الوطنيون في الجيش يشعرون بوطأة حصار الغرب لسوريا ولذلك توحدت صفوفهم من بعثية وليبرالية وتطور الوضع حتى استقروا على عرض الوحدة مع مصر وتمت هذه الوحدة في فبراير سنة 1958 كما تم تفصيله في الفصل السابق وطوال هذه المدة لم يكن للإسلام السياسي أثر على الساحة فالإخوان المسلمون قابعون في السجون والمعتقلات وباقي التيارات الدينية مثل السلفيين لا وجود لها على هذا النحو طوال الأعوام (1958 - 1959 - 1960) وعبد الناصر يرتفع نجمه بالوحدة مع سوريا ثم بثورة الجيش العراقي سنة 1958 وبداية التحول نحو اليسار بوضوح والتي انتهت بقرارات تأميم سنة 1964 وما تلاها من انفصال سوريا عن مصر.



وكانت شائعات عدة تتردد أن خلايا التيار الديني في سوريا قد ساعدت ضباط الجيش في عملية الانقلاب العسكري في اليمن، وعندما وقع الانقلاب العسكري في اليمن وأرسل عبد الناصر جيشه لليمن سنة 1962 لم يكن للتيار الديني أي وجود في هذه الحرب، فقد كانت حربًا بين معسكر مؤيد لليسار وآخر مؤيد لليمين في نزاع طبقي وصراع على السلطة في المنطقة ولم يدخل الدين فيه.