رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

«أتون القدر 38»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب



عبد الناصر ينفرد بالسلطة



في يوم 25 مارس وعلى مدى يومين أصيبت مواصلات القاهرة بالشلل التام حيث أضرب جميع عمال النقل المشترك من ترام وأتوبيس وخرج الآلاف من عمال النقل المشترك في مظاهرات حاشدة تنادي بسقوط البرلمان وسقوط الحرية وتطالب عبد الناصر ورفاقه بالعدول عن قرارات 5 مارس واستمرار مجلس قيادة الثورة في الحكم؛ لتحقيق أهدافها وتحقيق أمال الشعب وخاصة الفقراء، وسمعت في أماكن عدة من القاهرة أصوات انفجارات ضخمة اتضح فيما بعد أنها أصوات قنابل صوتية تسمى Brida أطلقها أعوان عبد الناصر لإثارة الفزع والزعم أنها قنابل حقيقية تطلقها الثورة المضادة لقتل الشعب.



وبعد أن اطمأن عبد الناصر إلى خيوط السلطة عادت في يده وتم القبض على زعماء التمرد خاصة بين ضباط سلاح الفرسان أعلن أن مجلس قيادة الثورة قد عدل عن قراراته في 5 مارس نزولًا على إرادة الجماهير التي كانت تحاصر مبنى المجلس وتطالبه باستمرار الثورة.



وبدأ القبض على زعامات الإخوان المسلمين على نطاق ضيق أول الأمر وأبقى عبد الناصر نجيب في منصب رئاسة الجمهورية عدة أشهر بعد ذلك كان نجيب خلالها محاصرًا ومجردًا من كل السلطات، وخلال هذه الأشهر استكمل عبد الناصر مفاوضات الجلاء الصعبة مع بريطانيا بمعونة أمريكية واضحة له كلما تعثرت المفاوضات حتى وصلا في أكتوبر سنة 1954 إلى اتفاقية لجلاء قوات بريطانيا عن مصر خلال الفترة حتى يونيو 1956 مع حق هذه القوات في العودة لاحتلال بعض مناطق مصر خاصة قناة السويس في حالة الحرب أو خطر الحرب الجسيم في المنطقة.



وحتى تطمئن بريطانيا إلى صلاحية قاعدتها العسكرية في قناة السويس للعمل الفوري لو عادت إليها فوافق عبد الناصر على بقاء خمسمائة خبير عسكري بريطاني في ملابس مدنية في قاعدة قناة السويس بصفة دائمة، وبالاختصار كانت اتفاقية عبد الناصر مع بريطانيا نسخة شبه حرفية من اتفاقية الجلاء التي وقع مشروعها المرحوم إسماعيل صدقي باشا مع بريطانيا سنة 1947 والمعروفة بمعاهدة «صدقي - بيفن» التي أسقطتها ثورة الطلبة والعمال وقتها.



حشد عبد الناصر مؤتمرًا شعبيًا ضخمًا في ميدان المنشية بالإسكندرية أوائل أكتوبر سنة 1954 ليعلن للشعب تفاصيل المعاهدة التي أنهت حكم بريطانيا لمصر واحتلالها لأرضها بعد 74 عامًا من الاحتلال عندما يتم الجلاء في 18 يونيو سنة 1956.



كان عبد الناصر يلقي خطابه وحوله كبار مساعديه من الشرفة الرئيسية بمبنى البلدية بميدان المنشية على ارتفاع أكثر من عشرين مترًا من عشرات الألوف من الجماهير التي احتشدت في الميدان لسماع الخطاب، وفجأة أخرج أحد هؤلاء الجماهير مسدسًا عاديًا ذو ست طلقات أطلقها نحو الشرفة لاغتيال عبد الناصر الذي لم تصيبه الطلقات وإن كانت إحداهما قد أصابت سكرتير هيئة التحرير التي انشأها عبد الناصر كحزب سياسي له وكان يجلس بجوار عبد الناصر في الشرفة وقبضت الجماهير على الرجل الذي اعترف بعد ذلك أنه عضو بالإخوان المسلمين بالجهاز السري الذي يخضع لقيادة المرشد العام حسن الهضيبي وأن الجهاز السري هو الذي كلفه باغتيال عبد الناصر.



وعقدت على الفور محكمة عسكرية من خمسة من ضباط مجلس القيادة برئاسة البكباشي جمال سالم، وحكمت على ستة من الإخوان المسلمين وضمنهم الفاعل وكذلك المرشد العام بالإعدام شنقًا، ونفذ الحكم في خمسة منهم.


 واستبدلت عقوبة الإعدام للمرشد العام وحده بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة والحكم على المئات من أعضاء الإخوان المسلمين أمام محاكم عسكرية مماثلة بالأشغال الشاقة المؤبدة وبعقوبات أقل وسبق المحكوم عليهم والمعتقلين من الإخوان إلى السجون الحربية أساسًا حيث لاقوا من صنوف التعذيب ما يتضاءل بجانبه التعذيب الذي لاقوه خلال شهور «عهد الإرهاب» الأول أثناء وزارة إبراهيم عبد الهادي سنة 1949.



وترددت وقتها شائعات ضخمة بأن حادث المنشية كان مدبرًا من عبد الناصر للخلاص من الإخوان المسلمين إذ لا يعقل أن الإخوان المسلمين وجهازهم السري بكل خبرته في الإرهاب يكلف رجلًا واحدًا بمهمة اغتيال عبد الناصر وبهذه الطريقة البدائية وهذا البعد في المسافة بين الجاني وضحيته وبمسدس واحد بدلًا من استعمال فريق اغتيالات يحمل مدافع رشاشة والواقع أن المؤرخ المنصف لا يستطيع تأكيد هذه الشائعات أو نفيها إذ كان كل ما يتردد مجرد شائعات ولم يجري تحقيق قضائي شفاف في الموضوع.



وبحلول عام 1955 بدأ عبد الناصر كما سبق عرضه في الفصل السابق الخاص بالصراع العربي الإسرائيلي، بدأ خطواته الحذرة في التقارب مع المعسكر الشيوعي لمحاولة تسليح جيشه بسلاح سوفيتي بعد أن رفضت أمريكا تسليحه ليستطيع مواجهة العدوان الإسرائيلي المتزايد خاصة بعد الغارات الإسرائيلية على المواقع العسكرية المصرية في سيناء سنة 1954 وكانت خطوات عبد الناصر للتقارب مع المعسكر الشيوعي تلقى ترحيبًا من رأي عام كبير في مصر بدأ ينفر من أمريكا والغرب عمومًا لتأييدهم العلني لإسرائيل.



وعقد عبد الناصر أول صفقة سلاح خلال ذلك العام فيما عرف بصفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية حيث كان التعاقد الرسمي على السلاح مع تشيكوسلوفاكيا بدلًا من روسيا مباشرة حتى لا يزداد غضب الغرب عليه.



واشترك عبد الناصر في أول مؤتمر للحياد الإيجابي بين المشرق والغرب الذي عقد في باندونج بأندونيسيا وكان عبد الناصر أحد رعاة المؤتمر الثلاث مع زميله جواهر لال نهرو زعيم الهند، وجوزيف بروز تيتو، رئيس جمهورية يوغوسلافيا، ثم اعترف عبد الناصر بجمهورية الصين الشعبية الشيوعية عدو أمريكا اللدود عندئذ وسحب الاعتراف من حكومة الصين الوطنية التابعة لأمريكا والتي كانت تتمركز في جزيرة فورموزا بعد أن طردها الشيوعيون من أرض الصين.



وبحلول سنة 1956 كان الإخوان المسلمون قد اختفوا تمامًا من الساحة السياسية وقبعوا في السجون والمعتقلات يعانون ويلات التعذيب بينما كان عبد الناصر تزداد شعبيته بسبب خطوات تحديه للغرب التي كان يتخذها واستكملت بريطانيا على مضد سحب جنودها من مصر طبقًا لاتفاقية الجلاء مع عبد الناصر حتى انسحب آخر جندي بريطاني من مصر في 18 يونيو سنة 1956 بعد احتلالها لمصر لمدة 74 سنة.