رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «29»

النبأ




كان عامر فور تنحي عبد الناصر قد ظن أن إعلان تنحيه بدوره من السلطة سيخرج الجماهير لتطالب بإعادته كما خرجت لعبد الناصر، ولما لم يحدث ذلك خرج رجال عامر الذين كانوا يديرون الجيش كآبعدية خاصة مبنية على الولاء وليس كفاءة الأداء، خرجوا في مظاهرة عسكرية تطالب بعودة عامر إلى السلطة، وتحصن المئات من رجال عامر المسلحين في قصره لحمياته وكانت فرصة عبد الناصر الذهبية في الخلاص من عامر وجعله كبش فداء للمأساة، استدعاه عبد الناصر لقصر الرئاسة الذي أصبح في حماية القائد العام الجديد الذي حل محل عامر، وواجه عبد الناصر رفيق عمره في لحظة تصلح سيناريو لإحدى تراجيديات التاريخ الكبرى مثل بروتس ويوليوس قيصر.

 



أعلن عبد الناصر لرفيق كفاحه أنه قد تم عزله من القيادة ووضعه تحت الاعتقال تمهيدًا لمحاسبته على ما حدث، وأرسل القائد العام الجديد قواته إلى قصر عبد الحكيم عامر، حيث اعتقلت كل الفلول من أنصار عامر الذين كانوا محتمين بالقصر بعد معركة قصيرة جدًا غير متكافئة وسيق عامر تحت الحراسة من قصر الرئاسة إلى مقر اعتقاله، وما هي إلا أسابيع قليلة جدًا بل مجرد أيام حتى أعلنت حكومة عبد الناصر أن عامر قد انتحر في محبسه، وطبعًا أكدت تقارير الطب التابع للنظام أن عامر قد انتحر بإرادته.



وأسدل الستار مؤقتًا على الغضب الجماهيري حتى عاد من جديد بعد بيان 30 مارس 1968 كما أوضحنا أعلاه.



وجد عبد الناصر كبش فداء جديد يهدىء به ثائرة الجماهير في شخص قائد سلاح الطيران الذي تدمر أسطوله الجوي على الأرض في معظمه دون قتال وهو المرحوم الفريق محمد صدقي محمود، فقدمه عبد الناصر مع الثلاثة الأكبر من معاونيه إلى المحاكمة التي أدانت صدقي محمود وأحد الثلاثة الآخرين وبرأت الباقيين، ولم تعجب النتيجة الجماهير الثائرة حتى بعد أن اعيدت المحاكمة وشددت العقوبة على صدقي محمود من السجن خمسة عشر عامًا إلى السجن المؤبد، واستمر الغضب الشعبي واستمرت تظاهرات الطلبة ولكن عبد الناصر كشر عن أنيابه وبدأت عملية قمع شديد لأي صورة من صور التمرد على السلطة.



ومن سخرية القدر أن هذه الهزيمة المنكرة لم تؤثر على السلطة المطلقة التي كان يمارسها عبد الناصر بل زادته تصلبًا في دكتاتوريته وارتكب عبد الناصر سنة 1969 أحد أكبر آثام الدكتاتورية حينما عصف بمؤسسة القضاء المصري الشامخة التي كانت متنفس الحرية الوحيد الباقي للشعب طوال سنين الحكم الديكتاتوري وكانت ضربة عبد الناصر للقضاء هي ما عرف وقتها بمذبحة القضاء، فعلى أثر تذمر القضاة من تصرفات السلطة ومحاولتها ادخالهم جبرًا في عضوية الاتحاد الاشتراكي حزب السلطة الوحيد، ورفض القضاة لذلك قام عبد الناصر بفصل عدة مئات من شيوخ القضاة ومن شبابهم الذين وقفوا خلف شيوخهم.

 



ودارت الأيام والآلاف يتمزقون غضبًا وخجلًا كلما مروا بجوار قناة السويس ورأوا علم إسرائيل يرفرف على ضفافها الشرقية، وكانت مدن القناة بورسعيد والإسماعيلية والسويس قد أخليت من أغلب سكانها نتيجة القصف المتقطع بين العدوين المصري والإسرائيلي عبر مياه القناة - ثم حل يوم 28 سبتمبر سنة 1970 وانتقل عبد الناصر فجأة إلى رحاب ربه، وكان قد بذل جهدًا بدنيًا خارقًا لم يحتمله قلبه في الأيام السابقة نتيجة مؤتمر للزعماء العرب في القاهرة يهدف إلى وضع حد للمذبحة الدائرة في الأردن بين جيش الملك حسين وبين كتائب المقاومة الفلسطينية المقيمين في الأردن، وهو ما عرف بمذبحة أيلول الأسود أو سبتمبر الأسود.


 

السادات رئيسًا لمصر:



وبعد أقل من ثلاث ساعات من توديع عبد الناصر لأمير الكويت آخر ضيوف المؤتمر المغادرين للقاهرة صعدت روح عبد الناصر إلى بارئها.



وعلى الفور اجتمع رجال عبد الناصر القابضون على كل سلطات الدولة حول الجسد المسجى على فراش الموت يبحثون في عجالة كيف يملؤون فراغ السلطة المفاجئ.



كان أكبر الموجودين درجة وأقلهم سلطة هو أنور السادات الذي كان يشغل عندئذ منصب نائب رئيس الجمهورية، أما السلطة الفعلية وسط المجموعة المحيطة بالجسد المسجى فكانت لعلي صبري ورجاله المشرفين على الاتحاد الاشتراكي، وكان محمد فوزي قائد الجيش ضالعًا معهم، ورأي المجتمعون أن أفضل صورة هي وضع أنور السادات مؤقتًا في كرسي الرئاسة كما لو كانت السلطة قد انتقلت سلبيًا، ولم تكن ميول أنور السادات الأمريكية قد تكشفت بعد، إذ لم يجرؤ أنور أو غيره من المحيطين بعبد الناصر في حياته أن يظهر أية ميول سوى الولاء للرئيس.



أما علي صبري ومجموعة الاتحاد الاشتراكي فقد كانت ميولهم الواضحة نحو اليسار مع الاتحاد السوفيتي، وكانت موسكو عندئذ مصدر السلاح الوحيد لإعادة تسليح الجيش المصري وتعويضه عن خسائره الهائلة في السلاح والعتاد، وكان عدة آلاف من الخبراء الروس يقيمون بمصر لتدريب الجيش على استعمال الأسلحة الجديدة الواردة من موسكو.



وبعد جنازة عبد الناصر الأسطورية التي شيعه فيها إلى مقره الأخير قرابة الخمسة ملايين مواطن يتقدمهم العشرات من رؤساء الدول وزعماء العالم الين حضروا لتشيع الجنازة، وبمجرد انتهائها أعلن عن فتح باب الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية ولم يكن هناك أي صراع على السلطة حتى هذه اللحظة، فقد كانت مجموعة علي صبري القابضة على كل خيوط السلطة من جيش وشرطة وأجهزة مخابرات لا ترى في السادات أي خطر يهددها إذ سيكون بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية أداة طيعة في يد هذه المجموعة، وتم ترشيح السادات للرئاسة في استفتاء المرشح الواحد طبقًا للدستور الديكتاتوري القائم، وفاز السادات بأغلبية 90٪ من الأصوات أو هكذا قيل وقتها.



وما هي إلا أشهر بل أسابيع قليلة حتى بدأ السادات يكشف عن جوانب القدرة الحقيقية في شخصيته وقدرته على المناورة والتآمر السياسي كانت مجموعة علي صبري تملك كل السلطة ولكن السادات كان بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية يملك وحده الشرعية، ودون دخول في تفاصيل ليس هذا الكتاب هدفها في الصراع على السلطة تمكن السادات في15  مايو سنة 1971 من الإطاحة بمجموعة علي صبري كلها بضربة واحدة وقبض على كل أفرادها وأودعهم السجون ثم قدمهم للمحاكمة التي حكم على زعيمهم بالسجن المؤبد وعلى الباقي بأحكام متفاوتة وأصبح السادات حاكم مصر المطلق.