رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «28»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب



بمجرد وصولي للسويد في أول يوليو أدركت أن التركيز في الدراسة من جديد مستحيل في حالتي التي كنت أتمزق فيها حسرة على ضياع حلم القضاء على الدولة اليهودية مع بقاء سكانها اليهود في بيوتهم التي كانت بيوتنا - إن أرادوا بشرط خضوعهم للحكم العربي وقمت على الفور بالبحث عن عمل مؤقت طوال شهور الإجازة الستة، وكان حظي جيدًا إذ عملت هذه الشهور في قسم الاستقبال بأحد فنادق ستوكهولم الكبيرة، وكانت السلوى الوحيدة لي في هذه الفترة - بجانب وجود أسرتي هي اللقاءات شبه اليومية التي كانت تجمعني مع بعض الأصدقاء المصريين والتي تعاهدنا ألا نستسلم لليأس والبكاء على اللبن المسكوب خلالها بل نفكر في المستقبل بطريق إيجابي.



قتلت الهزيمة عبد الناصر من الداخل قبل أن يقتله الموت في 28 سبتمبر 1970، ضاع إلى الأبد حلم حياته في قيام دولة عربية موحدة، وكنت خلال السنوات العديدة التي بعدت فيها عن مصر بعد هجرتي منها في صيف 1960 قد بدأت حدة غضبي على عبد الناصر تخف، وبدأت أنظر لما حققه خاصة في أول وحدة عربية مع سوريا وفي معركة تأميم قناة السويس وبناء السد العالي، وإن كنت ومازلت أمقت حكمه الديكتاتوري الذي أدى بالعرب إلى هذا الجحيم نتيجة انفراده بالقرار وعدم وجود من يبصره بحماقته السياسية الكبرى مثل حرب اليمن وإغلاق خليج العقبة.



كان أكثر ما يثير غيظي فيه أنه زعيم أتيح له من حب الجماهير ما لم يتاح لأي زعيم آخر حتى ولا مثلي الأعلى في الزعامة الزعيم الخالد مصطفى النحاس باشا، لذلك كان يغضبني جدًا في عبد الناصر حكمه الديكتاتوري وإخراج القوى الشعبية من الساحة السياسية في الوقت الذي كان سيظل مظلًا للزعيم الذي يتمتع بحب الملايين لو حكم حكمًا ديمقراطيًا يرسخ لشعبه مؤسساته ويؤمن له مستقبله، أسوة بما فعله صديقه وشريكه في الحياد الإيجابي زعيم الهند العظيم جواهر لال نهرو الذي أدت السياسة التي أرساها والديمقراطية التي رسخ قواعدها إلى وقوف الهند اليوم على عتبة القوة العظمى وتحقيقها الاكتفاء الذاتي في القمح لشعبها الذي يزيد على المليار نسمة، وملكيتهما لقوة نووية تردع من تسول له نفسه التربص بها، وإقامة قاعدة صناعية ضخمة بها بل وصولها اليوم إلى وضع الدول الاولى في إنتاج البرمجيات عالية التقدم نحو المستقبل.



واليوم عندما أنظر للخلف وقد مضى على رحيل عبد الناصر إلى رحاب ربه ثلاثة وأربعون عامًا لا يسعني إلا أن أشعر بتعاطف إنساني شديد مع هذا الرجل رغم كل ما عانيته وعانى العرب من سياساته.



عدت إلى مصر أول يناير 1968 واستأنفت عملي في مصر للطيران، وهالني عند عودتي لمصر أدهشني أن ما تصورت وجوده من غضب ورغبة في الثائر لمصر ومحاسبة من تسبب في نكبتها لم يكن له وجود حقيقي على السطح في الشارع، عادت الحياة لوتيرتها السابقة بل وأخذت النار التي كانت نائمة تحت السطح تبدو كأنها تخبو ولكن ما تحت الرماد كان نارًا حقيقية تنتظر لحظة الخروج إلى السطح، أدرك عبد الناصر ضورة الهاء الشعب ببرنامج لإعادة بناء ما تهدم ماديًا ونفسيًا وحشر كل إمكانيات الإعلام التابع له وكل أجهزة الحكم وعلى رأسها الحزب الوحيد القائم وهو الاتحاد الاشتراكي لإصدار وثيقة تقبلها الناس تتضمن برنامجًا كاملًا لإعادة البناء هذه ومواجهة مواطن الضعف والقصور ومحاسبة المسئولين عن الهزيمة المرة التي حاولوا تخفيف وقعها بتسميتها (النكسة)، وأخذت أبواق الحكم تردد أننا خسرنا مجرد معركة ولم نخسر الحرب، وبلغت الجرأة ببعض أبواق الحكم إلى ترديد أن العدوان الذي تعرضت له مصر قد فشل تمامًا في تحقيق أي من أهدافه.



وشرح جهابذة النفاق معنى فشل العدوان بان الهدف منه كان إسقاط نظام الحكم، وحين ان النظام لم يسقط وأن عبد الناصر كان مازال على رأس السلطة بتأييد كل الشعب فإن العدوان يكون قد فشل فشلًا ذريعًا، أما تدمير أسلحة الجيش وضياع أرواح عشرة آلاف جندي مصري وألف وخمسمائة ضابط، وضياع أرض سيناء كلها لقبضة الاحتلال الإسرائيلي فكل ذلك أمور ثانوية تجري معالجتها قريبًا !!



وتمخض جبل المناقشات والمؤتمرات التي عقدت فولد فأرًا اسمه بيان 30  مارس سنة 1968 الذي كانت أهم فقراته هي إعلان التأييد الكامل للرئيس وسياسته الهادفة إلى إعادة بناء الجيش واسترداد الأرض التي ضاعت على أساس أن ما أخذه العدو بالقوة لا يسترد إلا بالقوة ولا كلمة عن مسئول يحاسب !!



لم تبتلع الجماهير هذا الاستخفاف الكامل بعقولها ومشاعرها وبدأ الغضب يغلي والنار تشتعل تحت الرماد، وكانت مظاهرات عشرات الألوف من طلبة الجامعات والمدارس قد بأت تندلع مطالبة بمحاكمة المسئولين عن النكبة وبإنزال القصاص العادل بهم، ولجأ عبد الناصر إلى الحيلة التقليدية التي تلجأ لها كل الديكتاتوريات وهي إيجاد كبش فداء توضع على كتفيه مسئولية كل ما حدث ويلقي به إلى الجماهير لتهدئة ثائرتها.



كان كبش الفداء الأول الذي ألقى به عبد الناصر للجماهير فور الهزيمة في يونيو 1967 والمسرحية البارعة بإعلان تنحيه عن كل مناصبه، وخروج الجماهير الضائعة بمئات الألوف تطلب منه الاستمرار في السلطة وعلاج ما حدث.



وأثبت عبد الناصر عبقرية في قدرته على معرفة سيكولوجية الجماهير الضائعة في فراغ الهزيمة فأعلن عودته للحكم، وقذف برأس الرجل الثاني في النظام وهو المشير عبد الحكيم عامر، قائد الجيش إلى الجماهير لإطفاء لهيب غضبها.