رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

المسئولية السياسية فى أزمة كورونا

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي


فى أزمة صحية دولية تكاد تشل الحياة تحت الإقامة الجبرية الكلمة الأولى للعلم والطب لتطويق ضربات وباء «كورونا» المستجد، وخفض الكلفة الإنسانية والاقتصادية، غير أن المسئولية السياسية تلاحقها كظلها.
يقال عادة إن الحروب أخطر من أن تُترك للعسكريين وحدهم.
نحن الآن أمام مشاهد حرب عالمية جديدة مروعة دون طلقة رصاص واحدة.
العواصم والمدن الكبرى شبه خالية، منارات الحضارة أُطفئت، الاقتصادات الدولية تنكمش وبعضها يقترب من حافة الانهيار، المستشفيات تعجز عن الوفاء بمهامها فى إنقاذ مئات آلاف من المصابين، شاحنات تحمل جثث الذين قضوا بأثر الوباء للمحارق كما فى إيطاليا، كأنه موت بلا وداع وربما بلا دموع، فقد جفت من فرط الهلع الجماعى.
ليس من شأن الأطباء وحدهم إدارة مثل هذه الحروب، إنها شأن عام يدخل فى المسئولية السياسية للدول والنظم والمجتمعات.
حسن إدارة الأزمة واتخاذ الإجراءات الاحترازية اللازمة فى مواقيتها الصحيحة، مدى جاهزية النظم الطبية، نسبة ما يخصص للصحة والتعليم والبحث العلمى فى الموازنات العامة، قدرة المؤسسات العامة على أداء المهام العاجلة دون صخب أو ادعاء، وتأكيد ثقة المجتمع فى نفسه وفى قدرته على مواجهة الوباء والانتصار عليه تدخل كلها فى المسئولية السياسية.
بالتعريف المسئولية السياسية غير التوظيف السياسى.
فى دولة كفرنسا تعرضت لضربات «كورونا» القاسية ارتفعت شعبية الرئيس «إيمانويل ماكرون» ووصلت مؤقتا إلى أعلى معدلاتها منذ سنتين.
بقدر الجدية وروح المبادرة التى أبداها وقدرة خطابه على الإقناع استعاد ما فقده من رصيد فى أزمتى تظاهرات «السترات الصفراء» واضرابات قانون التقاعد.
لم يكن الأمر على هذا النحو فى بريطانيا، التى ارتبك رئيس وزرائها «بوريس جونسون» فى إدارة الأزمة، تأخرت إجراءاته عن مواقيتها الصحيحة، وكان خطابه الأول كارثيا حيث طالب البريطانيون بالاستعداد لوداع أحبائهم، كأنها دعوة للفزع العام دون أن يقدم على أية إجراءات مقنعة.
بالحالتين كان الاختبار سياسيا لا طبيا.
الاختبار الطبى هو نفسه اختبار سياسى.
قدر التضرر الفرنسى من ضربات الوباء أكبر مما حدث فى بريطانيا حتى الآن، غير أن الاضطلاع بالمسئولية السياسية خفف من قدر الغضب الشعبى، لا أحد يلوم رئاسته على ما وصلت إليه أحواله.
فى الحالة الأمريكية وصل التوظيف السياسى إلى أعلى مراحله وأسوأ تجلياته، كأن «دونالد ترامب» وجد فى أزمة «كورونا» فرصة انتخابية سانحة لحصد ولاية ثانية، يتحدث طوال الوقت بعلم وبغير علم، فيما يعرف وما لا يعرف.
بحسب ما كشفته الصحف الأمريكية فإن استخبارات بلاده أبلغته مبكرا بخطورة ما يحدث فى الصين من تفش للوباء وأنه قد ينتقل إلى مناطق أخرى فى العالم، بينها الولايات المتحدة، لكنه استخف بما تلقاه من تقارير واستهزأ علنا بأية مخاوف محتملة بما أوصل الولايات المتحدة إلى إعلان واشنطن ونيويورك وكاليفورنيا مناطق كوارث موبوءة.
باليقين فإنه يتحمل المسئولية السياسية عن تفشى الوباء داخل أمريكا، لكنه بقدرة غير طبيعية وغير عادية على التوظيف السياسى حاول أن يتصدر المشهد كأحد أبطال الحرب على الوباء.
أعلن عن عقار لم يتم اختباره والتأكد من صلاحيته وفق القواعد العلمية المتبعة، جرى نفيه فى المؤتمر الصحفى نفسه، كان ذلك مهينا وداعيا للسخرية من ساكن البيت الأبيض.
حاول أن يشترى شركة ألمانية تجرى تجارب متقدمة حتى يمكنه الادعاء أنه الرجل الذى أنقذ الأمريكيين من الوباء المستشرى، وكانت تلك فضيحة مدوية.
دخل فى مماحكات زائدة عن الحد بلا حيثيات جدية مع الصين وإيران.
وصف الوباء بـ«الفيروس الصينى»، وكان ذلك محلا لانتقاده على أوسع نطاق دولى، فالفيروس بلا جنسية، لكنه عاد لتخفيف لهجته قائلا إنه غاضب من الصين «قليلا«!
شدد العقوبات على إيران، التى تتعرض لضربات الوباء فى بنية مجتمعها، دون أن يتوقف عن إبداء الاستعداد الكلامى لمد يد العون نحوها.
كان ذلك أقرب إلى مزيج سياسى يحاول بألعاب الحواة أن يقتنص فرصة الوباء لإحكام الحصار على إيران وربما توجيه ضربة عسكرية على ما دعا وزير الخارجية «مايك بومبيو» بمداولات مسربة من داخل البيت الأبيض، وأن يكتسب فى الوقت نفسه طابعا أخلاقيا باسم الإنسانية.
كان ذلك محض كلام فى فضاء المؤتمرات الصحفية، إذ لم تمد الولايات المتحدة يد العون لحلفائها الغربيين فى القارة الأوروبية المنكوبة مثل إيطاليا الأكثر تضررا من ضربات الوباء المميتة بالقياس على الصين نفسها.
بالمفارقة مدت ثلاث دول من خارج المنظومة الغربية يد العون إلى إيطاليا المنكوبة.
الصين، التى نجحت فى تطويق الوباء وأثبتت قدرتها الطبية والتكنولوجية والتنظيمية على اكتساب صفة الدولة العظمى، بادرت بإرسال خبراء وأطباء وأجهزة طبية ضرورية.
الفكرة تنطوى على مسئولية سياسية إنسانية، وهذه من مؤهلات التقدم لتولى مقعد القيادة الدولية، وهو ما تحاول الصين بكل الطرق عدم الوقوع فى إغوائه حتى تستكمل عناصر قوتها الاقتصادية والعسكرية، لكن الحقائق سوف تفرض كلمتها بعد انقضاء الجائحة.
روسيا، التى تتعرض بدورها لضربات الوباء، وجدت فى نفسها الثقة الكافية أن ترسل معدات وأدوية ومختصين فى مكافحة الأوبئة بزى عسكرى، وهذه مسألة رمزية ربما كانت مقصودة، فالجيش الأحمر العدو التقليدى لدول حلف «الناتو» هو الآن المنقذ فى مهمة إنسانية.
كان لافتا ما صرحت به موسكو من أن الجسر الجوى الذى ربطها بمطارات إيطالية لا يرتبط، أو يرتهن برفع العقوبات عنها.
هكذا صيغت بدبلوماسية بعض أهداف التقدم الروسى للعب دور إنسانى فى وقت محنة مشتركة.
هذا نوع من الاستثمار السياسى المستقبلى ينطوى على بعد نظر.
كوبا بدت الأكثر لفتا للأنظار فى رحلات المساعدة لإيطاليا المنكوبة.
أرسلت أكثر من (50) طبيبا متخصصا، لديهم خبرات متراكمة فى مكافحة الأوبئة بدول إفريقية ولاتينية مثل «إيبولا»، قالوا لدى هبوطهم فى مطار إيطالى وهم يحملون صور الزعيم الكوبى الراحل «فيدل كاسترو» وأعلام بلادهم: «نحن لسنا أبطالا خارقون، بل أطباء ثوريون».
كانت الرسالة الرمزية أن كوبا المحاصرة نجحت فى صياغة واحدة من أهم التجارب الطبية والعلمية فى العالم، وأن ما أحرزته من تقدم طبى وعلمى ملك للبشرية كلها، وأنها ليست بوارد التخلى عن الخيارات الرئيسية للثورة الكوبية رغم رحيل قادتها الكبار.
بصورة رمزية لكنها مؤثرة بأية حسابات مستقبلية، أقدمت مصر على خطوة مماثلة بقدر ما تستطيع أن تساعد.
اللافت فى التجربة الإيطالية قدر ما يستشعره الإيطاليون من مشاعر عزلة واحباط من تنكر الحلفاء الغربيين لمعاناتهم المرعبة.
المشاعر نفسها تنتاب مواطنى إسبانيا، التى يضربها الوباء دون أن تجد سندا أوروبيا، هناك ما يشبه الانكشاف الكامل للاتحاد الأوروبى فلسفة وعملا، الحدود أغلقت دون تشاور والإجراءات اتخذت على انفراد، ومستقبل الاتحاد بين قوسين كبيرين حيث غابت المسئولية السياسية المشتركة.
من أسوأ مظاهر التوظيف السياسى فى الإقليم الذى نعيش فيه ما صدر فى إسرائيل من قرارات لمواجهة الوباء مصممة على أساس تمييزى بين العرب واليهود، وهذه نظرة عنصرية أمام وباء لا يفرق بين البشر على أسس عرقية ودينية.
الأكثر سوءا توظيف رئيس حكومة تصريف الأعمال «بنيامين نتانياهو» للوباء من أجل البقاء فى منصبه، قال إن إسرائيل تبدو كسفينة «تايتنك» توشك على التحطم والغرق، كأنه يريد أن يقول إنها تحتاجه رغم تكليف خصمه «بينى جانتس» بتشكيل الحكومة الجديدة، يناور ويعرض فكرة الحكومة الوطنية التى تتطلبها مواجهة الوباء شرط أن يترأسها هو.
هذا نوع من التوظيف السياسى بذىء فى أسبابه ومنطقه.
المسئولية السياسية قضية أخرى نحتاج أسبابها ومقوماتها هنا فى مصر.
نحتاج تعبئة مجمل طاقات الدولة والمجتمع لمكافحة الوباء وتخفيض أضراره، استقطاب ثقة الرأى العام بالشفافية والمعلومات الحقيقية لا بإعلام الصوت الواحد، تصحيح السياسات والأولويات ورفع المظالم السياسية والاجتماعية بقدر الممكن، الاستفادة بكل الكفاءات المعطلة حتى يحتفظ البلد بقدرته على التحدى والصمود والخروج بعد الأزمة أكثر ثقة بنفسه ومستقبله.

نقلا عن "الشروق"