رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «27»

النبأ



بحلول سنة 1967 كان واضحًا أن التوتر يتصاعد بوتيرة سريعة وفجأة وصلت شائعة يقال أنها تبعت روسيا تقول أن إسرائيل تحشد قوات عسكرية كبيرة على الحدود مع سوريا تمهيدًا لغزوها وتصاعدت وتيرة الإعلام المُعادي لعبد الناصر خاصة في الدول العربية التابعة لأمريكا متهمة عبد الناصر بالجبن وتجنب مساندة سوريا الشقيقة في مواجهة إسرائيل.



ورغم أن عبد الناصر أوفد نائبه أنور السادات لسوريا لمعاينة الحشود الإسرائيلية على حدودها ورغم أن السادات عاد لمصر يؤكد أنه لا وجود لحشود إسرائيلية على حدود سوريا استمر تصاعد التوتر رغم ذلك.



وكان الاتفاق الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة والذي أدى إلى انسحاب قوات العدوان الثلاثي من مصر سنة 1956 بشرط أن تفتح مصر مضيق تيران في جنوب سيناء دون عائق في وجه الملاحة الإسرائيلية باعتبار مياهه دولية ولضمان تنفيذ مصر لالتزامها بفتح مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية تقرر وضع قوات مراقبة دولية في شرم الشيخ جنوب سيناء وعلى الحدود بين مصر وإسرائيل.



وعندما زاد توتر الموقف الذي كانت الصحافة الغربية والإسرائيلية والأمريكية تؤججه إذا بعبد الناصر يطلب فجأة في أوائل مايو من يوثانث سكرتير عام الأمم المتحدة عندئذ سحب المراقبين الدوليين من حدود مصر مع إسرائيل مع إبقاء المراقبين الموجودين لدى مضيق تيران لاستمرار فتحة الملاحة الإسرائيلية ورفض يونانت سحب جزء دون آخر من المراقبين، فإما إبقاء كل المراقبين وإما إنهاء وجود مراقبي الأمم المتحدة كلية بين مصر وإسرائيل فطلب منه عبد الناصر سحب كل المراقبين الدوليين.



وبدأ على وجه السرعة في حشد الجيش المصري في سيناء ليواجه إسرائيل على أمل ردعها عن مهاجمة سوريا، وبنفس الفجائية أعلن عبد الناصر في منتصف مايو إغلاق مضيق تيران وبالتالي خليج العقبة كله في وجه الملاحة الإسرائيلية وكان ذلك إعلان للحرب عمليًا وبالمخالفة للقانون الدولي الذي يحظر أي قيد على الملاحة في المياه الدولية ومنها مضيق تيران وخليج العقبة.



ويضع ميناء إيلات وهو الميناء الإسرائيلي الوحيد في البحر الأحمر في حالة حصار غير قانوني، وكان هذا بالضبط ما أرادته أمريكا وإسرائيل ووقع عبد الناصر ومعه مصر وكل العرب في الفخ، ووقف أمام العالم في صورة المعتدي.



وما هي إلا أيام قلائل ثلاثة أسابيع فقط بين إغلاق مضيق تيران والهجوم الجوي الكاسح الذي شنته إسرائيل على مصر صباح 5 يونيو سنة 1967 والذي أخذت تستعد له بدقة كاملة سنين عديدة، وفي خلال بضعة ساعات كان الأسطول الجوي المصري قد دمرت معظم طائراته وهي رابضة على الأرض وبدأ زحف القوات الإسرائيلية الخاطف على مصر وسوريا والأردن.



وخلال أقل من ست أيام كان الجيش الإسرائيلي قد احتل كل سيناء ووقف على الضفة الشرقية لقناة السويس كما احتل هضبة الجولان السورية دون قتال تقريبًا، واجتاح الضفة الغربية للأردن وضمها لإسرائيل وتحقق الحلم الإسرائيلي بإعلان مدينة القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل.



كنت أعيش وقتها في اسكتلندا مديرًا لمكتب مصر للطيران بجلاسجو وكان الآلاف من العرب والذين يعيشون في بريطانيا وورائهم مئات الملايين من العرب في كل الدول العربية يشتعلون حماسًا يكاد يقرب من الانفجار بمجرد سماع أنباء حشد الجيش المصري في سيناء وإغلاق خليج العقبة، كنا متأكدين أن عبد الناصر ومعه باقي العرب المشتركين في المعركة المنتظرة قد أعدوا عدتهم لهذه الحرب تمامًا، وأن فناء إسرائيل كدولة أصبح مسألة أسابيع معدودة وتركنا كل تركيز على أعمالنا وتفرغنا لمتابعة الأحداث المتلاحقة.



وكنا في أحلام يقظتنا نفكر كيف سيكون احتفالنا في رأس السنة القادم بمدينة تل أبيب، وهل سنشمت في اليهود أم سيكونون موضع عطفنا وتسامحنا عندما نقابلهم وجهًا لوجه في عاصمتهم التي فتحتها جيوشنًا، وبلغت ثقة العرب بأنفسهم عنان السماء عندما سمعوا تصريحًا لقائد القوات الجوية المصرية الفريق محمد صدقي محمود يقول أن قواته الجوية وحدها تستطيع تدمير تل أبيب واحتلالها، ولكن لا يريد أن يستأثر بالمجد وحده، ويريد أن يترك دورًا هامًا لزملائه من قادة الجيش والبحرية في النصر المرتقب.



وجاء اليوم المشئوم 5 يونيو 1967 لم نصدق أبدًا الأنباء الأولى التي أعلنت أن بضع مئات من الطائرات الحربية المصرية قد دمرت وهي رابضة على الأرض.



مستحيل مستحيل هذه دعايات صهيونية لتحطيم روحنا المعنوية، وخلال ساعات من بدء الحرب سافرت كمن به مس من الجنون إلى لندن على أول طائرة، واندفعت نحو النادي المصري بلندن، وكان مئات المصريين محتشدين في النادي يتابعون في ذهول ما يذيعه التلفزيون البريطاني عن الحرب دقيقة بدقيقة.



وبتنا طول الليل ساهرين نتابع الكارثة التي بدأت معالمها الكاملة تنضج، وبعد يومين دون نوم أو طعام يذكر خرجنا إلى الشارع كل في اتجاه مختلف، نبكي كالأطفال في ذلة وانكسار، لا يجرؤ أي منا أن ينظر في عيني زميله خجلًا وحسرة.



عدت بعد أيام إلى أسرتي في جلاسجو لأعد العدة لتصفية مكتب مصر للطيران بها، فلم يعد ممكنا الاحتفاظ به بعد إعلان توقف كل خطوط الطيران بين مصر وبريطانيا، وبعد اتهام عبد الناصر لبريطانيا أنها اشتركت في الحرب ضدنا عن طريق قيام طائراتها الحربية بحماية سماء إسرائيل خلال الحرب حتى يتفرغ سلاح الطيران الإسرائيلي لمهاجمة مصر وقد ثبت فيما بعد أن هذا الاتهام عاري تمامًا من الصحة.



فكرت بسرعة في مصيري لم أحتمل فكرة العودة لمصر وسط هذا المأتم الجماعي واليأس المطبق، فكرت في العودة للسويد مؤقتًا لعلي أستطيع أن انغمس في الدراسة ثانية للحصول على دكتوراه في مجالي السياسي، وقدمت طلبًا لمصر للطيران لمنحي أجازة دون مرتب لمدة ستة أشهر، ورحبت الشركة بكل طلبات الإجازة دون مرتب التي قدمت لها لما تتضمن من تقليل للنفقات في ظروفها القاتلة.