رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

اختبارات الشرعية فى هدنة عالمية غير معلنة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

لا دقت أجراس إنذار ولا تبدى أى تهيؤ قبل أن تجتاح العالم أخطر جائحة فى التاريخ الإنسانى الحديث.

ضرب الارتباك مراكز صناعة القرار، تغيرت أولويات وألغيت التزامات وأزيحت أزمات جوهرية إلى الخلف مؤقتا وتصدرت المشهد وقائع وتداعيات الحرب مع وباء «كورونا» المستجد.
كان ذلك تطورا جوهريا غير معلن، لكنه ملموس وماثل فى بنية النظام العالمى وصلب توجهاته وأولوياته.
لم تبارح أية أزمة طبيعتها ولا تعدلت حقائق الصراع فيها، ولا جرى اتفاق بين القوى والأطراف المتنازعة على تخفيض حدة التوتر.
إنها هدنة إجبارية فى البيئة الدولية بدواعى الفزع الجماعى.
هدنة مؤقتة إلى أن ينقشع الوباء العالمى.
يكاد المشهد الإعلامى باتساع العالم دون استثناء واحد يلخصه عنوان الحرب مع «كورونا»، مدى تغلغله وانتشاره وخسائره البشرية والاقتصادية وإجراءات مواجهته، بقية الأخبار أزيحت إلى الخلف.
بضغط الشوارع المذعورة طرح السؤال ملحا على صناع القرار: كيف يمكن إدارة المصالح العليا فى ظل المعطيات الجديدة؟
بصيغة أخرى: ما الإجراءات العاجلة لحفظ حياة المواطنين وإنقاذ الاقتصاد من أشباح الكساد والانهيار غير المستبعد؟
لا توجد بيئة سياسية محلية أو دولية ترشح الآن أى أزمة للتصعيد، فلا قبل لأحد بكلفة التصعيد فى وقت وباء يخشى من تبعاته الكارثية على جميع مناحى الحياة.
بأى حساب لا يمكن تجميد الازمات الإقليمية والدولية فى ثلاجة، هذا مستحيل تماما، فالصراعات الكبرى تعبير عن صدامات مصالح واستراتيجيات ومشروعات وموازين قوى.
نحن أمام هدنة غير معلنة تدعو إليها ضرورات الحرب مع الوباء كأولوية لدى جميع الدول على اختلاف مصالحها وأوزانها.
أولوية «كورونا» اختيار سياسى إجبارى.
من زاوية موضوعية فإنها مسألة شرعية، ومسألة أمن قومى باتساع مفهومه.
فى اختبارات الشرعية، كما الأمن القومى، فإن حفظ سلامة المجتمع وحياة المواطنين أولوية مطلقة.
كيفية إدارة الأزمة تدخل ــ بالقطع ــ فى حساب كفاءة النظم ومدى قدرتها على بناء التوافقات الوطنية وما تبثه من ثقة فى أوصال مجتمعاتها فى أوقات شدة.
الاختبار الأكبر للشرعيات هو مدى جاهزية نظمها الطبية فى مواجهة أى تفش للوباء، ومدى قدرة اقتصادها على تحمل أعباء التعطيل الإجبارى المؤقت لفاعليته وحيويته.
استراتيجيات المواجهة مسألة شرعية، كما هى قضية حياة وأمن قومى.
بصورة أو أخرى تبنى العالم، ومنظمة الصحة العالمية نفسها، الاستراتيجية الصينية فى العزل والحجر المنزلى وإغلاق المدارس والجامعات والمقاهى والمتاحف والمزارات السياحية ودور العبادة وأى تجمعات رياضية وفنية للسيطرة على الوباء ومنع انتشاره.
لم تكن هناك استراتيجية أخرى قادرة على الوفاء بمتطلبات المواجهة لحين التوصل إلى عقار ناجع، وهذه مسألة قد تستغرق وقتا.
بنصيحة من المستشارين الطبيين لرئيس الوزراء البريطانى «بوريس جونسون» طرحت استراتيجية أخرى مفزعة بأى منطق إنسانى وأخلاقى باسم ما تسميه «مناعة القطيع»، فإذا ما أصيبت نسبة كبيرة من السكان بالوباء تحدث مناعة ذاتية، وهو رهان يفضى بالضرورة إلى التضحية بنسبة أخرى من السكان بين كبار السن والمرضى المزمنين، رغم الادعاء الملتبس بضرورة خضوعهم للحجر المنزلى.
النموذج البريطانى يستدعى للذاكرة النظريات البيولوجية التى تقول بـ«البقاء للأقوى»، الأصح بدنيا، الأكثر شبابا والأكثر غنا وقدرة على توفير الحماية والعلاج.
إنها صياغة طبية لنوع من الرأسماليات المتوحشة فيما العالم يبحث عن أمل فى إنقاذ البشرية وتأكيد وحدته الأخلاقية أمام الخطر الداهم.
من المرجح أمام تصاعد نسب الإصابات بـ«كورونا» فى بريطانيا اتخاذ إجراءات احترازية تحتذى ما يحدث فى العالم، المجتمع المدنى سبق حكومته فى اتخاذها والإجراءات إجبارية.
الفارق بين دولة وأخرى هو فى سرعة الاستجابة، كلما كانت الإجراءات فى مواقيتها تنخفض نسب تفشى الوباء وتزداد احتمالات السيطرة عليه.
فى بلد مثل بريطانيا أزمتها مزدوجة، «كورونا» فى زمن البريكست، أو البريكست فى زمن «كورونا»، كلتاهما تضرب فى الاقتصاد وركائزه ومستويات معيشة المواطنين.
بأية قراءة موضوعية يصعب التعويل على أى دور بريطانى فى أى أزمة دولية أو إقليمية مثل الأزمة الإيرانية الأمريكية، أو الأزمة السورية، أى حضور بريطانى سوف يكون رمزيا أو أدبيا على أقصى تقدير.
رغم اختلاف استراتيجيات المواجهة مع «كورونا» فإن الاتحاد الأوروبى فى وضع انكشاف بفلسفته ومؤسساته وكفاءة إدارته لأزماته المشتركة، كما لم يحدث من قبل.
كل دوله تصرفت على نحو منفرد، أغلقت مطارات وأوقفت حركات التنقل وأغلقت الحدود تقريبا بين دوله دون تشاور مسبق، أو أدنى تنسيق.
كان ذلك ضربا فى صلب مشروع الاتحاد الأوروبى، وهو ما استدعى التساؤل فى مركزية القياديين باريس وبرلين عن قدر خطورته على مستقبل المنظومة الأوروبية وبدأ الحديث عن إجراءات مشتركة تفتح الحدود بين دولها وتغلقها مع الآخرين.
هذا تطور لا يمكن إغفال مدى تأثيره على مستقبل الاتحاد الأوروبى وأدواره فى الأزمات الدولية، خاصة فى الإقليم الذى ننتمى إليه.
شىء ما انكسر ربما تتضح فرص ترميمه بعد انقضاء الجائحة.
شرعية الاتحاد الأوروبى على المحك.
فى مراجعة الشرعيات بدت فرنسا حالة خاصة.
أعلن الرئيس «إيمانويل ماكرون» إجراء الانتخابات البلدية فى مواقيتها رغم ما تعانيه عاصمة النور من إغلاق لكل مناراتها الحضارية ومواطن الحيوية فيها.
لماذا؟ ــ إنها مسألة شرعية، فإذا ما تعطلت الانتخابات يهتز النظام السياسى بأسره ويضعف موقع السلطة التنفيذية، لكنه بعد إجراء الجولة الأولى أعلن تأجيل الثانية.
لماذا ــ إنها مسألة شرعية من نوع آخر خشية أن يؤدى التزاحم فى اللجان الانتخابية إلى تفشى الوباء والإضرار الفادح بحياة المواطنين.
هذه الخطوة العكسية لم يقدم عليها إلا بعد التشاور مع الرؤساء السابقين والأحزاب السياسية والكتل النيابية.
تراجعت شرعية الانتخابات لصالح شرعية سلامة المجتمع.
جرى ذلك بالتوافق لا بالانفراد.
فى اختبارات الشرعية أحرزت الصين، مركز الوباء، نجاحا ملموسا فى السيطرة عليه، أثبتت قدرتها على اكتساب صفة الدولة العظمى، التى تحاول تأكيدها بالتوصل إلى عقار ناجع قبل الولايات المتحدة.
من يسبق أولا؟
هذه مسألة لها دلالاتها فى حسابات القوى وموازين المستقبل.
نشبت تحرشات معلنة ومكتومة صينية أمريكية، الصينيون اتهموا الجيش الأمريكى بلا دليل معلن حتى الآن بمسئوليته عن تهريب الوباء إليها، والرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» أطلق عليه «الفيروس الصينى، وهو توصيف جرى اعتباره على نطاق دولى واسع نوعا من العنصرية، فالفيروس لا جنسية له.
كان سعى «ترامب» لشراء شركة ألمانية لاحتكار حق تصنيع العقار، وأن يقتصر استخدامه على المواطنين الأمريكيين، فضيحة سياسية وأخلاقية، فالمصير الإنسانى واحد، والتكاتف ضرورى لمواجهة الوباء العالمى.
الاعتبارات الأخلاقية تلاحق الاعتبارات السياسية، تواجهها وتستخدم فى توجيه الضربات الموجعة أمام رأى عام إنسانى قلق على مصيره.
هكذا دخلت روسيا على الخط الصينى فى إدانة العقوبات الجديدة التى فرضتها الولايات المتحدة على إيران التى تعانى بقسوة من ضربات الوباء دون قدرة على توفير المستلزمات الطبية الضرورية.
لم يكن يتوقع أحد أن يكون مثل هذا الحدث المفاجئ أكثر العناوين أهمية فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الخريف المقبل.. ولا أحد الاختبارات الكبرى لمدى تقبل الرأى العام الأمريكى لهذا النوع من الرئاسات، ولا أن يجد العالم نفسه مدفوعا بالإجبار إلى هدنة غير معلنة تختبر فيها شرعيات النظم.
نقلا عن "الشروق"