رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

النهر الخالد.. بين الأحلام والآلام

عمر حبيب
عمر حبيب


الماء هو  سر الوجود، سر الحياة على كوكبنا، سر الحياة بداخلنا ، المكون الرئيسي بأجسادنا، غذاء الأرض و ثروتها، سر وجود الإنسان والحيوان والنبات، و بدونه ينعدم الوجود البشري و تستحيل الحياة بكافة أشكالها و صورها لأن الله عز و جل قال في كتابه" وجعلنا من الماء كل شئ حي".

و نهر النيل ليس فقط مصدراً للمياه كأي نهر ، ليس مجرد نهر له منبع و مصب و مجرى يسري فيه ، بل هو شريان الحياة الرئيسي للوطن ، و النبض الصادق الدافئ الذي ينبض بالأمل والحب و الرخاء لكل المصريين.

و إذا عدنا بالتاريخ لآلاف السنين ، نجد أن أجدادنا الفراعنة لم يتعاملوا مع ذلك النهر العظيم كمصدر للمياه أو الملاحة أو الزراعة فقط ، بل كان إلهاً مقدساً تُقدم له القرابين ، و تُقام له الشعائر و الطقوس الدينية لما له من أثر روحاني ، فضلا عن أثره العظيم كمورد طبيعي .

كان للفراعنة إلهاً في هدوئه و فيضانه ، في سكينته و غضبه ، كانت الأناشيد و الترانيم تُعزف و تُنشد من أجله ، و كانت العذارى يُضحى بهن من أجله .. و كانت الحياة تستمر من أجله .

كانت مصر منذ قديم الزمان و حتى العقود الوسطى من القرن الماضي بلد زراعي من الطراز الأول لما منحها الله من أرض خصبة و طبيعة جغرافية مميزة ، و مناخ رائع طوال العام .. فضلا عن ذلك الشريان النابض الذي ينتصف أراضيها .

كانت الأراضي المصرية تضخ إنتاجاً ضخماً من مختلف المحاصيل الزراعية من قطن و خضروات و فاكهة ، و كانت تلك المنتجات الزراعية لا تقل جودة عن منتجات أي بلد أوروبي .. و كان الفلاح المصري يرعى أرضه بمنتهى الحب و الفناء و الإخلاص .

و لعلنا جميعاً نذكر في أفلامنا الكلاسيكية القديمة أجمل و أروع مشاهد للأرض المصرية و النهضة الزراعية الكبيرة ، أما بالنسبة لنهر النيل فلم يكن يخلو أي فيلم من المناظر الخلابة لكورنيش النيل ، والنزهات النيلية للعشاق ، و الملاحة النهرية بالأقصر و أسوان .. ذلك النيل العظيم الذي تغزل في حسنه شاعره الجميل حافظ إبراهيم ، و لحن له موسيقار الأجيال رائعته " النيل نجاشي " و كذا مقطوعته الشهيرة " النهر الخالد " ، و غيرهم من فنانين هذا الزمن الجميل الذين ألهمونا بفنهم العظيم ، وجسدوا أحاسيسهم الرائعة تجاه كل قيمة جميلة و كل ما هو موروث ثمين .

إذن ماذا حدث للنيل ؟... ماذا أصابه من غدر الزمان ، و عكَر صفو أحلام الماضي و تركه يقاسي آلام الحاضر ؟.... الإجابة : نحن ..

نحن من جعلنا النهر يبكي ، يدمي ، يصرخ و يعاني .. نحن من قطعنا شريان الحياة و تركناه ينزف دون حتى أن نرحم أنينه أو نحاول إسعافه ، نحن من قمنا بتدنيس هذا المقدس لتحل علينا لعنة و غضب أجدادنا .

أين أصبح النيل الآن ؟.. بعد أن كان المصدر الرئيسي للزراعة و الطاقة و الملاحة التجارية و الثروة السمكية و السياحة الداخلية .. أو حتى مصدراً لبهجة الأعين و متعتها .

كيف لا يعاني النيل و نحن المصريون نلقي بأيدينا قمامتنا و مخلفاتنا فيه ، كيف لا يعاني و نحن نلقي بأيدينا الحيوانات النافقة و مخلفات المصانع فيه، كيف لا يعاني و نحن نلقي بأيدينا مياه الصرف الصحي فيه ؟! ... 

لقد بدأت آلامه في الظهور ، و أنين آهاته و توجعاته عندما بدأنا في تدنيسه و إهانته ، فتلوثت مياهه الصافية و انتشر المرض في مشربنا و تربتنا الزراعية عندما قتلنا بأيدينا ثروته السمكية و الأحياء المائية بداخله بسبب عاداتنا غير الصحية و آفاتنا اللاأخلاقية .. عندما أهملنا الملاحة النهرية و دورها في إنتعاش التجارة و إزدهار الإقتصاد القومي .. عندما نسينا أو تناسينا دوره الهام و الفعال في تنشيط عملية السياحة الداخلية .

لقد بدأت آلامه و أوجاعه حينما نسينا من نحن ..حينما نسينا أننا مصريون ، أننا ورثة هذا النيل ، و أننا علينا أن نصون ذلك الإرث العظيم .

و لتسامحنا يا هيرودوت إن لم تعد مصر هبة النيل .. و ليسامحنا الله إن لم نرع تلك الهبة حق رعايتها .