رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

العمل عبادة.. وعادة

عمر حبيب
عمر حبيب


تحدثنا عن قيمة الوقت ، و الصحة ، و المال ، التطور العلمي و التكنولوجي و تأثيره في حياتنا اليومية و العملية ، تحدثنا أيضا عن قيمة العنصر البشري و هو الإنسان الذي خلقه الله عز و جل و جعله خليفته في الأرض ، و سخر الكون بأكمله و طوَعه لخدمته ، تحدثنا عن كل مقومات النهضة و أسس و دعائم الحضارة و الأعمدة الرئيسية التي يرتكز عليها تقدم الشعوب و رقي الأمم .

كل هذه العناصر و العوامل الرئيسية في التقدم و التطور لابد لها من قيمة محورية تربط بينها ، و تحافظ على إستمراريتها ، تلك القيمة تتمثل في ما يسمى " بالإلتزام بالعمل " .

كلنا نعمل ... كلنا نعمل و نكد و نكافح من أجل لقمة العيش ، من أجل توفير حياة أفضل لنا و لأولادنا من بعدنا ، من أجل تحقيق الثروة أو الرفاهية ، أو حتى حلم أو هدف معين .

و لكن دعني أسألك يا صديقي : هل خطر لك في أحد الأيام أن تسأل نفسك ما هي قيمة العمل الفعلية ؟..هل قيمة العمل بالنسبة لك تتمثل في مزاولة نشاط خاص أو مهنة معينة تضمن لك حياة كريمة فقط ؟ .

أم هل فكرة العمل هي شئ أكبر و أعمق من ذلك ؟.. الأمر هنا يحتاج إلى دراسة واسعة و بشكل أكثر إستفاضة .. إن أحد الفروق الواضحة بين شعوب دول معينة و شعوب دول أخرى هي النظر إلى فكرة العمل و تقدير قيمته المعنوية قبل تقدير قيمته المادية و الغرض المادي الذي يحققه .. بمعنى ، أن الشاب المراهق في دول الغرب مثل أوروبا أو الولايات المتحدة حينما يعمل مثلا في مجال بيع الصحف أو الألبان أو في محلات البقالة أومحطات الوقود و غيرها فإنه لا يحقق من المال أو المكسب المادي ما يحقق له أهدافه و أحلامه ، بل الأمر الأهم من ذلك هو مدى الخبرة المكتسبة و المهارات التي تُصقل بها شخصيته مثل فن التعامل مع أنماط مختلفة من البشر ، و الإلمام بإحتياجات السوق في سن مبكرة ، و الإنفتاح على آفاق جديدة في مجال عمله أو في أي مجال جديد ، بل إن طلاب المرحلة الثانوية يقومون بإرفاق شهادات الخبرة في تلك الوظائف أو الحرف مع طلبات تقدمهم لدخول الجامعات كخبرات إضافية تتيح لهم فرص و إمكانيات جديدة في المستقبل .

إذًا فالأمر هنا لا يقتصر على مبدأ العمل من أجل المال أو من أجل لقمة العيش ، فقد يكون العمل الذي تقوم به غير مُجزي من الناحية المادية و لكنه يُشبع مهاراتك في أشياء مختلفة قد لا تجدها في وظيفة أخرى .. و أنا هنا لا أدعو إلى الإستسلام و الخضوع لوظيفة تحُد من إمكانياتك ، على العكس .. بل إن الأساس في العمل هو الطموح و السعي دائما إلى البحث عن فرص و إمكانات جديدة تتيح لك الراحة الذهنية و النفسية كي تُثمر و تُبدع في عملك ، و أن تقتنص كل فرصة ذهبية تلوح لك في الأفق .

و كما نعلم فالدول المتقدمة يكون نظام الأجور فيها بعدد ساعات العمل الفعلية خلال الشهر و ليس من خلال إثبات الوجود و الغياب بمجرد التوقيع في دفتر الحضور دون أن يكون هناك عمل فعلي و إنتاج حقيقي على أرض الواقع كما يحدث في غالبية الهيئات و المؤسسات الحكومية في مصر .

إن عدد العاملين بالجهاز الإداري بالدولة يتخطى الستة ملايين موظف .. رقم كبير و مُبالغ فيه .. لأن حجم العمل الحقيقي و الفعلي في تلك الهيئات يحتاج فقط إلى مليون موظف للقيام به ، إذاً فما حاجتنا للخمسة ملايين الباقية ؟؟... 

دعوني أنا أجيب على هذا السؤال الهام : حاجتنا للخمسة ملايين موظف المتبقيين مهمة للغاية و لا يُمكن الإستغناء عنها .. فمن سيقوم بتقطيع الخضراوات و تحضير السلاطة اللذيذة للغداء ، ومن سيقوم بحل مسابقة الكلمات المتقاطعة في الجرائد و الصُحف اليومية ، و من سيقوم بأداء صلاة الظهر من قبل حتى أن يُؤذِن المؤذن للصلاة و يستمر الموظف في الصلاة لمدة ساعة على الأقل ( بالرغم أنه على حد علمي ومعلوماتي البسيطة أن صلاة الظهر تتكون من أربع ركعات فقط ) ، و من سيقوم بالتحدث على الهاتف طوال اليوم دون الإلتفات لأحوال المواطنين ، و من سوف يتناول وجبة الإفطار على الأقل مرتين أو ثلاثة مرات يوميا على مكتبه في منظر مُنفر و يثير الحنق و الإشمئزاز ، و من سيكون ( مزوغاً) في حين أن زملاءه يؤكدون لك أنه موجود و لكنه في دورة المياه ( ثلاث ساعات في دورة المياه !! ... اللهم إشفيه من هذا الإمساك المزمن ) .

كل هذا بالإضافة إلى سوء المعاملة من قِبَل بعض الموظفين و فظاظة القول مع الناس أحيانا .. كل هذا يحدث لسبب بسيط .. لأن الموظف يضمن الحصول على راتبه في نهاية كل شهر سواء إلتزم بأداء عمله أم لا .. في غياب المحاسبة من قِبَل المديرين و الرؤساء ، و حينما يشارف الشهر على الإنتهاء يُسرع كل هؤلاء الموظفين في منتهى الهمة و النشاط إلى الخزينة لتقاضي مرتباتهم ، و يكون الموظف في منتهى الأسى و الحزن إذا تم خصم جنيه واحد من راتبه و يشعر بالظلم الشديد والقهر .. و أسفاه !

نتعجب من تقدم الدول الأجنبية ، و نكون في قمة الإنبهار و الإندهاش من مدى التقدم و التحضر الذي تعيش فيه تلك الدول ، و نحن لا نرى ما هو نصب أعيننا و بين أيدينا ... الإخلاص في العمل .

كلنا نعلم القصة الشهيرة لخليفة المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- حينما وجد الرجل المتعبد في المسجد ليلا و نهارا و لا يعمل ، في حين أن أخاه يعمل و يكد و يكافح ، و قال له عمر قولته الشهيرة : أخوك أعبد منك .

نعم إن العمل عبادة .. فالدولة لا تعطيك أجراً نظير أن تصلي وقتا طويلا ً ، أو تقرأ القرآن في عملك و تهمل مصالح المواطنين .. الدولة لا تعطيك أجرا من أجل أن تستغل ساعات العمل في تناول الطعام على مكتبك وسط أوراق و ملفات هامة خاصة بالناس و يجب عليك أن تحافظ عليها حتى لا يضيع أصحابها جراء إستهتارك و إهمالك .. الدولة لا تعطيك أجرا نظير أن تثبت حضورك من خلال توقيعك في دفتر الحضور و الإنصراف .

الدولة تعطيك أجرا من أجل أن تعمل ، من أجل أن تتحمل المسئولية و تكون أهلا لها ، الدولة تعطيك مكتباً لا من أجل أن تأكل عليه أو تنام عليه أو تقرأ الجريدة و تحل مسابقة الكلمات المتقاطعة أو السودوكو ، الدولة تعطيك المنصب لتعطيها أنت الأمانة ، الدولة تعطيك الأجر لتعطيها أنت العمل ... قال سيدنا عمر إن العمل عبادة .. و حتى يصير العمل عبادة لابد أولاً أن يكون عادة ، و العادة كي تصبح عادة لابد أن تكون إلتزاماً ، و الإلتزام هو شئ جوهري نابع من الضمير الإنساني ، و الضمير هو الصوت الداخلي الصادر من قلب ووجدان كل فرد منا ، صادر من النفس المؤمنة التي تراقب الله عز وجل في كل أفعالها .

و كي تعود مصرنا الحبيبة الغالية رائدة و قائدة لابد أن تعود مصر العمل ، مصر الإيمان ، مصر التقدم .. لابد أن نزرع قيمة العمل ( المعنوية قبل المادية ) في نفوس أولادنا و بناتنا منذ الصغر كي نصنع جيلا من الرواد و القادة في شتى مناحي الحياة ...

" فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ..." صدق الله العظيم.