رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «25»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب


بدء سقوط نظم الحكم العربية:


وجد العرب الذين خرجوا من الحرب مهزومين أن كبريائهم الجريح يحتاج إلى البحث عن كبش فداء يضع على كاهله عبء الهزيمة كانت الأنظمة الحاكمة هي كبش الفداء هذا خرجت الجيوش العربية على حكومتها وكان الجيش السوري هو أول جيش يقوم بالانقلاب على حكومته سنة 1949 تبعه انقلاب ثاني ثم ثالث في غضون أشهر وصار الحكم العسكري المباشر هو أسلوب الحكم العربي.


وكان الجيش المصري هو الجيش التالي في قائمة الانقلابات العربية ولكن لابد هنا من إشارة هامة جدًا بالنسبة للظروف في مصر وقتها كانت آخر الحكومات الوفد في الحكم إثر مؤامرة سنة 1950 حتى يناير 1952 عندما أقيلت من الحكم إثر مؤامرة حريق القاهرة وبدأت سحب الثورة الشعبية الديمقراطية تتجمع على الأفق.


وكان أمام بريطانيا إما الزج جيشها من منطقة قناة السويس لاحتلال القاهرة من خلال بحر من الدماء، وإما عدم التعرض للانقلاب العسكري الذي وقع في 23 يوليو سنة 1952 بقيام مجموعة من ضباط وطنيين تريد إصلاح أحوال بلدها وكانت بريطانيا تدرك بحكم خبرتها التاريخية أن هؤلاء الضباط الشباب سيقومون حكمًا دكتاتوريًا عسكريًا باعتبار أنها أسلوب الحكم يستطيعون ممارسته وبذلك يقضون بمعرفتهم على حركة التطور الديمقراطي الشعبي وعندما تخرج القوى الشعبية من معادلة الحكم ليسهل جدًا لبريطانيا التعامل مع هؤلاء الضباط ومواجهتهم بالقوة عند اللزوم.


وكان الرجل الذي اختاره القدر لقيادة مجموعة الضباط هذه هو الضابط الشاب البكباشي جمال عبد الناصر ذو الأربعة وثلاثين عامًا عند وقوع الانقلاب كان يحمل في داخله شعلة هائلة من الكبرياء والاعتزاز بالنفس، وكان في نفس الوقت يحمل شعورًا طاغيًا بالعدالة الاجتماعية والرغبة الحقيقية في الوقوف بجانب الفقراء والمحرومين ومساعدتهم على أخذ نصيب من الحياة من تعليم ومسكن ومأكل وفي نفس الوقت وداخل نفس الكيان البشري كان عبد الناصر يحمل قدرًا هائلًا من الاستبداد بالرأي والإنفراد بالقرار والتخلص الفوري من كل معارضيه، وكانت مأساة عبد الناصر الحقيقية أن قراره لم يكن دائمًا بالقرار السليم بل كان أحيانًا طريقًا إلى دماره الشخصي ويعد فترة قصيرة من الانقلاب تخلص فيها عبد الناصر من كل معارضيه وعلى رأسهم الضابط الأكبر رتبة من ضباط الانقلاب وهو اللواء محمد نجيب الذي كان مجرد واجهة لتحسين وجه الانقلاب.


وعندما انفرد عبد الناصر بالحكم رسميا في خريف سنة 1954 بدأت قراراته الذاتية واضحة للعيان إلى جانب مواطن الضعف القاتلة فيه وأدركت ملايين الفقراء إخلاصه الحقيقي لقضاياها ورغبته في النهوض بها رغم ديكتاتوريته العمياء.


فأولته هذه الجماهير حبًا وتأييدًا لم يتح لزعيم وطني في العالم العربي، وبدأت مشروعاته الايجابية الرئيسية تخرج للوجود وكان تأميم قناة السويس هو الشعلة التي أشعلت العالم العربي من المحيط إلى الخليج وأدت إلى الهجوم الثلاثي على مصر سنة 1956 ثم انسحاب المعتدين نتيجة تدخل أمريكا التي أخرجتهم من المنطقة وحل نفوذها محلهم كانت أمريكا تراقب عبد الناصر وتحاول توجيه نحو مصالحها وكان عبد الناصر يدرك ذلك ولكن لا يستطيع مجاهرة أمريكا بالعداء وقد أيدته أمريكا سنة 1958 عند قيام الوحدة المصرية السورية التي انتهت بالانفصال سنة 1961 ثم جاءت الثورة في اليمن في صيف سنة1962 بانقلاب عسكري قاده الضابط عبد الله السلال وكانت حوله مجموعة من القوميين العرب المدنيين مثل الدكتور عبد الرحمن البيضاني ورفاقه واستنجد الثوار بعبد الناصر واستنجد إمام اليمن البدر الذي عزلته الثورة بالسعودية.


وأخطأ عبد الناصر خطيئة عمره الكبرى فأرسل جيشه إلى اليمن لتأييد الثوار وبذلك تخطى عبد الناصر أخطر الخطوط الحمراء من وجهة نظر أمريكا والغرب بوضع جيشه بجوار منابع النفط المقدسة لدى الغرب، وبتهديد السعودية أهم عميل أمريكي في العالم والتي كان ميناؤها البترولي في الخليج «رأس تنورة» يصدر يوميًا نصف ما يخرج من الخليج من نفط لم يعطى عبد الناصر هذا التهديد الذي يمثله وجحود جيشه بجوار منابع النفط ما يستحق من اعتبار وكانت مشاعر عبد الناصر وكبرياءه الشخصي مازال جريحًا نتيجة انفصال الوحدة مع سوريا العام السابق ولكن السياسة مع الأسف لا تعالج بالمشاعر بل بالحقائق ولم يكن ضمن الدائرة المحيطة بعبد الناصر نتيجة شخصيته الطاغية من يجرؤ على مصارحته بأن إرسال الجيش لليمن كارثة بأبعادها المدمرة للمصالح المصرية لو اكتفى بعد الناصر بإرسال أسلحة وأطعمة وحتى متطوعين للثوار لكان ممكنًا أن يمضي الأمر دون مصائب ولكن وضع جيش مصر في مواجهة الأسطول الأمريكي الخامس في الخليج وفي مواجهة الجيش السعودي شرطي أمريكا وأهم خفرائها في منطقة الخليج كان شيئًا يستحيل على أمريكا احتماله أو السماح به.


وظلت أمريكا تستدرج عبد الناصر إلى الغرق في المستنقع اليمني وتستنزف جيشه في حرب عصابات مع القبائل اليمنية التي كان بعضها يقبض ثمن الحرب من كلا الطرفين المتصارعين، جيش عبد الناصر في ناحية ومعه الضباط اليمنيون والقوى الوطنية التي سارت خلف راية القومية العربية التي رفعها عبد الناصر في ناحية وجيش السعودية من وراء ستار يدعم القبائل اليمنية التي كانت تناصر الإمام المخلوع في الناحية الثانية تتدفق عليه الأموال والأسلحة السعودية.


والمتطوعين من قبائل المنطقة السعوديين واليمنيين الذين كان هدفهم من المعركة ما يحققون من مكاسب ووصل الأمر أن بعض القبائل كانت تعمل مع الجيش المصري نهارًا وتقبض الثمن ثم تنضم ليلًا للغارات التي كان الإمام المخلوع ورجاله يشنوها على المواقع المصرية لقتل وتدمير ما يستطيعون من الرجال والعتاد ثم الهرب تحت جنح الظلام للاختباء في كهوفهم الحصينة بجبال اليمن العالية.


وظل عبد الناصر عدة سنوات يستنزف جيش مصر واقتصادها في حرب طاحنة لا تبدو لها نهاية ولا يوجد لها ميدان عمليات واضح محدد المعالم وخلال سنة 1961 وقع انقلاب عسكري ثاني في العراق أطاح بعبد الكريم قاسم عدو عبد الناصر ومنافسه على الزعامة العربية للمعسكر الذي كان يوصف بمعسكر اليسار أو المعسكر التقدمي، في مقابل معسكر الحكومات الملكيةا لتي كانت توصف بالرجعية والعمالة للاستعمار الأمريكي وأعدم الانقلاب في العراق عبد الكريم قاسم وتولى بدلًا منه عبد السلام عارف من الضباط المؤمنين بالقومية والوحدة العربية وعاد التقارب سريعًا بين مصر والعراق.