رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

تمثال الشعب ومسلة الحكومة

محمد ابو الغار
محمد ابو الغار


منذ مائة عام ومع ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزى والحماية البريطانية سقط عدد كبير من الشهداء، وقدم الشعب فى كل أنحاء مصر تضحيات ضخمة بدءًا من الفلاحين فى القرى، ونهاية بسعد زغلول زعيم الثورة الذى تم نفيه مرتين خلال سنوات قليلة. وأسفرت الثورة عن إلغاء الحماية وعن دستور متميز وبرلمان انتخب بديمقراطية وصحافة حرة، والإفراج عن الذين صدرت ضدهم أحكام بسبب الاشتراك فى مقاومة الاحتلال، ظهرت نهضة فنية وثقافية ضخمة تزعمها سيد درويش بالموسيقى الحديثة، وبدأ محمد عبد الوهاب وأم كلثوم فى الظهور بغناء متميز. وفى الثقافة كتب مصطفى عبد الرازق رسالته عن الفلسفة الإسلامية فى فرنسا، وتلا ذلك على عبد الرازق بكتابه الإسلام وأصول الحكم، وكتب محمد حسين هيكل روايته زينب، ثم أبدع توفيق الحكيم بروايته عودة الروح. وظهر طه حسين يناقش الفلسفة الاجتماعية لابن خلدون، ثم كتابه فى الشعر الجاهلى. هذه الثورة الثقافية الضخمة والهامة أثرت فى قطاع المتعلمين والمثقفين المصريين، ولكنها لم تصل إلى الفلاح الأمى أو المواطن البسيط. حدث فنى هام اجتذب جموع الشعب المصرى كله والتف حوله وهو نحت تمثال نهضة مصر للمثال والوطنى العظيم محمود مختار.

يؤرخ وزير الثقافة الأسبق بدر الدين أبوغازى فى كتابين وعدة مقالات لتاريخ الفنان مختار ويحكى قصة تمثال نهضة مصر. الإلهام جاء إلى مختار وهو فى باريس ينحت تمثالًا يجمع بين أبى الهول والفلاحة المصرية، فهو رمز لعودة روح مصر القديمة بحضارتها الخالدة مع الفلاحة أم الأجيال التى أقامت ومازالت تقيم الحضارة وتحافظ على الوطن جيلًا بعد جيل. دخلت الفكرة فى مرحلة التنفيذ فى باريس مع الاشتراك بالتمثال فى معرض باريس العالمى الهام. ولم يكن مع مختار الطالب الفقير ما يكفى لتمويل التمثال، فاجتمع الطلبة المصريون وجمعوا من المال ما يكفى لعمل تمثال من الرخام. فى هذا الوقت كان سعد زغلول والوفد المصرى فى باريس فى محاولات لجذب الرأى العام لصالح المسألة المصرية، فالتقى بهم مختار وأدركوا أهميته وأنه أصبح نجمًا صاعدًا فى النحت. قدم مختار فى معرض باريس نموذجًا لتمثال نهضة مصر وعاد من باريس، ابن القرية الفلاح الصغير الذى ذهب إلى القاهرة وعمره 15 عامًا ودخل كلية الفنون الجميلة بالموهبة وبدون شهادة ثانوية، وأقيمت له احتفالات بنجاحه فى باريس بإعلاء اسم مصر، وانطلق الكتاب والشعراء فى مدح فنه فى القاهرة والإسكندرية. وظهر مشروع تمثال نهضة مصر كفكرة لأن أبو الهول هو الذى ناجاه الشعراء واستنهضوه، ولاقت الدعوة ترحيبًا بالفكرة فى نفوس المصريين. وبدأ الاكتتاب للمشروع فانهالت القروش من الفلاحين والفلاحات وفقراء المدن، وأخذت الأقاليم تتنافس على التبرع، وفجأة دبت الروح فى الشعب المصرى الذى اعتبر أن تنفيذ التمثال سوف يحقق صحوة للشعب، وتشكلت لجنة من رئيس الوزراء. قرر مختار أن ينحت التمثال من الجرانيت ليعيد أمجاد الفراعنة. ونفد مبلغ الاكتتاب الشعبى 6500 جنيه، واشتركت الحكومة بمبلغ 3000 جنيه. فى هذه الفترة تحقق كتابة دستور 1923، وافتتح بنك مصر، وقال مختار إن مصر النهضة قادمة.

ووقع مختار فى براثن البيروقراطية، ونادت بعض الأصوات النشاز بأن المشروع مكلف، ولكن ويصا واصف وقف يخطب فى البرلمان محفزًا الأمة لاستكمال مشروع النهضة. كان عدلى رئيسًا للوزراء وسعد زغلول رئيسًا للبرلمان، فاعتمدا المبلغ المطلوب لإتمام التمثال فى 13 شهرا. وأخذت ساحة التمثال تحظى بزيارات من كبار الشخصيات، وشجع ذلك الملك على إصدار مرسوم ملكى بإنشاء لجنة استشارية للفنون الجميلة، التى بدأت تشجيع الفنانين، ونظمت بعثات لشباب الفنانين، ثم قررت إنشاء متحف الفن الحديث، وتقدم وزير المعارف بمشروع بتغيير مناهج الدراسة الفنية وإنشاء مدرسة للفنون، وأدخل علم الجمال وفلسفة الفنون فى مناهج الدراسة. تم تنفيذ التمثال الذى شارك فيه الشعب والبرلمان والحكومة وحتى الملك فؤاد الذى كان لا يحب مختار اضطر أن يشارك، وأصبح هذا التمثال رمزًا لمصر ليس فقط لعظمته الفنية وعظمة الفنان الذى صنعه، ولكن لأن الشعب كله شارك بروحه وتشجيعه وماله فى الدفاع عن الفكرة والاحتفال بها. يتم الآن تنفيذ مشروع لتجميل ميدان التحرير، وهو أهم ميادين القاهرة، ويتم وضع مسلة فرعونية كانت مهشمة وتم تجميعها لوضعها فى الميدان، وبالتأكيد الفكرة عظيمة، فالقاهرة عاصمة مصر يجب أن ترفع فيها مسلة مثلها مثل كل المدن الكبرى فى العالم التى تتزين بالمسلات. ولكن لماذا لم يلتف الشعب المصرى بحماس وحب وعشق لوضع مسلة عظيمة فى الميدان بينما التفت الجماهير لسنوات طويلة مستمرة حول تمثال نهضة مصر؟.. السبب ببساطة أن الشعب المصرى شارك الحكومة فى مشروع تمثال نهضة مصر وكل فلاح فقير دفع قرشًا كتبرع شعر أن هذا التمثال له، وشاهد الشعب الرسوم التفصيلية قبل تنفيذ المشروع، وكانت الزيارات تتم والصور التاريخية موجودة لزيارات الجميع لمتابعة المشروع، ومازال نهضة مصر فى قلوبنا حتى هذه اللحظة. أما المسلة فلم يعرف أحد التفاصيل ولا شكل التخطيط النهائى، ولم تناقش الصحف ولا التليفزيونات ولا عرفنا كيف تم جمع أجزاء المسلة المهشمة ولا طولها ولا تاريخها، ولذا لم يشعر الشعب أنها جزء منه، وإنما هى من صنع الحكومة التى تجاهلته وقررت تجميل الميدان كما تريد بدون مشاركة أصحاب الميدان. ميدان التحرير قطعة من قلب مصر، والمسلة المصرية القديمة أثر فنى رائع يجب أن يشعر الناس، وبالذات البسطاء منهم، أنها مسلتهم، والميدان يتم تجميله لهم، وأقل شىء هو أن يعرفوا ماذا يحدث، ليتعاطفوا معه.

قوم يا مصرى مصر دايمًا بتناديك..

نقلا عن "المصري اليوم"