رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

لا تعايرنى ولا أعايرك

محمد سعد عبد الحفيظ
محمد سعد عبد الحفيظ

لم يسبب لى لقاء الفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالى السودانى برئيس وزراء الكيان الصهيونى بنيامين نتنياهو فى أوغندا الأسبوع الماضى، أى نوع من الصدمة، فالرجل الذى شهدت عاصمة بلاده إطلاق «اللاءات» الثلاث الشهيرة «لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض» فى مؤتمر القمة العربية الرابع الذى تلى نكسة 1967 قبل 5 عقود، سار على درب أقرانه من القادة العرب الذين دفعهم التمسك بمواقعهم إلى تحويل الـ«لاءات» إلى «نعمات».
أعلن القادة العرب تباعا «وفاة اللاءات الثلاث للخرطوم»، وفق ما ذكرته صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية، فى تقرير لها نهاية الأسبوع الماضى، مؤكدة أنه «خلال الفترة الحالية أصبح لإسرائيل الكثير من الدول العربية الداعمة لسياساتها بالمنطقة، وعلى الفلسطينيين أن ينضموا لهذه الدائرة أيضًا»، وأضافت أن «البرهان سار على درب الرئيس المصرى الراحل أنور السادات، وتجاوز الخطوط الحمراء التى وضعها كارهو إسرائيل لعقود، وبدأ طريق التطبيع مع إسرائيل».
مضى الفريق البرهان، إذن، على الطريق الأسهل لضمان استمراره على رأس السلطة، أدرك أن بقاءه فى موقعه هو وباقى جنرالات السودان لن يمر الإ عبر بوابة أمريكا باعتبارها تملك 99% من أوراق اللعبة، على حد تعبير الرئيس «المؤمن» الراحل الذى سلم الأمريكان «الجمل بما حمل»، ثم فاجأ المجتمع الدولى بإعلانه زيارة القدس المحتلة ودخوله فى مفاوضات سلام منفردة مع العدو الغاصب قبل أن تجف دماء المصريين على خط النار، فأخرج مصر من دائرة الصراع ومنح مبررا قويا لقادة العواصم العربية فى اللحاق بركبه مما جعل العدو يعربد فى المنطقة دون حساب، فسالت الدماء العربية فى بيروت وقانا وغزة أنهارا، واكتفى العرب ببيانات الشجب والإدانة.
فهم الوافد الجديد القادم إلى مقاعد السلطة عبر بوابة ثورة شعبية انحاز إليها الجيش السودانى مقتضيات وقواعد لعبة الحكم فى الشرق الأوسط، وأيقن أنه بدون التطبيع مع إسرائيل وشراء ود الأمريكان فبقاؤه فى السلطة مسألة وقت.
فالبرهان كما غيره من الجنرالات الذين جربوا مذاق الحكم لن يقنع بوجوده كرئيس «انتقالى» يؤدى مهامه التى تم تكليفه بها ويرحل، فمعظم من قادوا انقلابات أو شاركوا ودعموا ثورات وانتفاضات من جنرالات المنطقة لم يغادروا مواقعهم سوى بالموت أو الثورة، وباستثناء الجنرال سوار الذهب الذى تولى المسئولية فى السودان عقب الإطاحة بالرئيس جعفر النميرى عام 1985 ثم تنحى بعد عام تاركا السلطة لحكومة مدنية، والجنرال محمد ولد فال فى موريتانيا الذى خاض مع مجموعة من العسكريين انقلابا أبيض على الرئيس معاوية ولد سيدى أحمد الطايع عام 2005، وتولى الرئاسة لمرحلة انتقالية ثم سلم الحكم للمدنيين عام 2007، دون هذين الجنرالين لم يرحل أحد.
مضى البرهان فى طريق التطبيع عبر البوابة الأمريكية، بدعوى تحقيق مصلحة السودان ورفع اسمه من قائمة الإرهاب، «السودان الآن يمر بضغط اقتصادى ويحتاج لقرارات جريئة ترفع من الواقع الذى يعانيه الشعب السودانى، ونتوقع أن تعود علينا تلك الخطوة بفوائد كبيرة»، قال الرجل مبررا لقاءه برئيس وزراء الكيان، فنال الرضا الأمريكى ووجه له وزير خارجيتها مايك بومبيو الشكر ودعاه إلى زيارة واشنطن لـ«العمل من أجل علاقات ثنائية أقوى بين الولايات المتحدة والسودان».
دعوة البرهان إلى زيارة واشنطن التى أشار إليها بومبيو فى تغريدة على صفحته بموقع «تويتر» الأسبوع الماضى، سيكون لها ما بعدها، فالعاصمة الأمريكية هى مقر تعميد بعض القادة وتمكينهم من السلطة، وليس من المستبعد أن يشهد السودان تطورات دراماتيكية تنتهى بحقبة جديدة من حكم الجنرالات، لكن تلك المرة برضا أمريكى، وهو ما قد يطيل بقاءهم فى الحكم.
يسوق بعض الحكام العرب وآخرهم البرهان أن تطبيع العلاقات مع الاحتلال الصهيونى ونيل الرضا الأمريكى سيحسن الأوضاع فى بلادهم وستجرى أنهار اللبن والعسل تحت أقدام الشعوب، لكن الواقع يؤكد أن الدول التى عقدت اتفاقيات مع إسرائيل لا تزال شعوبها تعانى الفقر والمرض والجهل، إضافة إلى القمع والتهميش.
لن تتحسن الأوضاع الاقتصادية لشعوب تلك الدول إلا عبر بوابة الديمقراطية، ولن يُقضى على الفقر والمرض والجهل إلا بتداول السلطة ورحيل هؤلاء عبر صناديق الاقتراع، لن تستطيع تلك الدول أن تكون ندا لإسرائيل إلا بتحولها إلى دول مدنية حديثة تكون القيادة فيها للأكفأ عبر منافسة جادة بين أحزاب سياسية تعرض برامجها للإصلاح واختيار حر من الشعوب

نقلا عن "الشروق"