رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

محراب الفن بلا قبلة

عمر حبيب
عمر حبيب


الفن هو ضمير الشعوب وهو أيضاً اللغة الحية المعبرة عن ثقافتهم و من أجل تحقيق ذلك فيجب على الفن أن يكون صادقا معبرا لا يتخلله زيف أو إسفاف، خصوصاً إذا كان ذلك الفن خاصاً ببلد حضاري عظيم ذو خلفية تاريخية متميزة تعود إلى آلاف السنين.

وتراث مصر الفني زاخر بالكنوز الفنية في شتى ألوان الفنون من موسيقى و مسرح و سينما و غيرها و ذلك بالتأكيد كان له دور عظيم في إثراء روح و شخصية المواطن المصري في العقود الأولى من القرن الماضي.

وكما كان للفن دور عظيم في إثراء الجانب الوجداني لمصر ، فقد كان له دور عظيم أيضا في إثراء الجانب الإقتصادي للبلاد، والإحصائيات تذكر لنا أن أعلى عائد إقتصادي في مصر كان يتصدره السينما و القطن، فقد كانت شركات الأفلام و الإنتاج السينمائي تقوم بإنتاج أعداد لا حصر لها من الأفلام سنوياً، و لم يكن الغرض هو إنتاج أكبر كم من الأفلام دون الاهتمام بالمحتوى بل على العكس من ذلك، فقد كانت تلك الأفلام سواء كانت كوميدية أو تراجيدية أو رومانسية أو مترجمات لروايات عالمية بل ومازالت كنزاً لا يقدر بمال نفخر به و نتوارثه جيلاً من بعد جيل.. هذا بالإضافة إلى نجوم السينما و الذين برعوا بدورهم قبل ذلك على خشبة المسرح وتخرجوا من تحت أيدي كبار وفطاحل الفرق المسرحية مثل فرقة جورج أبيض و الريحاني و عزيز عيد و فاطمة رشدي و على الكسار و يوسف وهبي.

فقد كانت تلك الفرق المسرحية المتميزة ذات الطابع الفني الخاص تقوم بعمل معالجة حوارية للروايات الغربية و العالمية و إضفاء النكهة المصرية الشرقية لها كي تتماشى مع الشارع المصري وذوق وحس المواطن المصري و ثقافته و أسلوب حياته في ذلك الوقت، فتخرج له عملاً ضخما متميزاً يتردد صداه على مر الزمان .. ومن منا لا يتذكر المبدع أنور وجدي في رائعة أليكساندر دوماس "كونت دي مونت كريستو" أو "أمير الإنتقام " كما أُطلق على الفيلم في نسخته العربية ، ومن منا لا يتذكر إمبراطور الضحك و ملك الكوميديا الراحل إسماعيل يس، و غيرهما من عمالقة الشاشة الصغيرة أمثال وحش الشاشة فريد شوقي، والثعلب محمود المليجي ، و رشدي أباظة و عمر الشريف و أحمد رمزي و توفيق الدقن و إستيفان روستي و زكي رستم و حسين رياض و أمينة رزق و فردوس محمد و غيرهم .

كانت أجور الفنانين في ذلك الوقت زهيدة للغاية ، لم يكن معظمهم من أصحاب الأملاك بل منهم من كان ينفق على العمل الفني من جيبه الخاص، و كان هذا العمل الفني رائعاً ممتازاً و في غاية الإبداع ،عملاً يحترم عقلية و ثقافة المُشاهد ، عملاً فنياً راقياً يلمس القلوب و الوجدان دون أن يخدش الحياء بكلمة أو بمشهد أو حتى بفكرة.

لم تكن الأفلام مثل أفلام اليوم ، فالأعمال السينمائية في يومنا هذا معظمها تمتلئ مشاهدها بكل ما يجرح العين و الفكر من عنف و جنس و إبتذال ، فأصبحت الأفلام السينمائية و أيضا المسلسلات التلفزيونية التي تُعرض على مختلف القنوات الفضائية طوال العام و حتى في شهر رمضان الكريم هي عبارة عن صورة واحدة تتكرر في كل عمل فني ( و اعذروني في لفظ عمل فني ) فأصبحت الكباريهات و الملاهي الليلية هي المكان الرئيسي الذي يُقام فيه التصوير ، وأصبحت السيوف و المطاوى و الأسلحة البيضاء هي أدوات التعبير عن أحداث القصة ، وأصبحت اللغة المُنحطة و الألفاظ البذيئة الخادشة للحياء هي لغة الحوار الطبيعية بين الممثلين و التي إنتقلت بفضلهم ( و لهم الفضل الأول و الأخير في ذلك ) إلى الشارع المصري و إلى شبابنا و بناتنا في شتى الأعمار ، مما أدى إلى إرتفاع العنف و معدلات الجريمة في السنوات القليلة المنصرمة داخل البيت و المدرسة و في الشارع المصري .

أصبح الإنتاج السينمائي في العصر الحالي يعتمد على ثقافة "العرض و الطلب" أو الطريق إلى الربح السريع أياً كان هذا الطريق .. من يريد راقصة نهديه راقصة لتثير غرائز المشاهدين فلا أحد يلتفت إلى مضمون الفيلم و يدرك فشله .. ومن يريد عنفاً نهديه بلطجي يحمل سلاحاً و يمضي في طريقه طوال الفيلم يقتل و يشوِه و يتفوه بأبشع و أشنع الألفاظ فلا أحد يلتفت إلى مضمون الفيلم و يدرك فشله أيضا.

أصبح الفن و صناعة السينما الآن لا يعتمدان على العمل الجيد أو الفنان الموهوب، بل اصبحا يعتمدان على إفساد الذوق العام لدى الناس، و كلنا جميعاً نعلم تمام العلم أنه إذا فسد الذوق فمن أين لك ان تميز الحلو من المُر، و أستطيع وقتها أن أُطعمك ما أشاء دون أن تشعر بأي شئ .

كان الممثلون و فنانون جيل السينما الذهبي يتقاضون مبالغ زهيدة كما ذكرنا، و لكن كان نجاح العمل و صداه لدى الجمهور هو الربح الحقيقي لهم ... لم يكونوا يتقاضون الملايين كفنانين هذا العصر ( أو أنصاف الفنانين كما أدعوهم ) لأن من يعتمد على الفن كمصدر للعائد المادي فقط دون الإهتمام بما يقدمه للجمهور لا يجب أن يستحق لقب فنان ، لأنك كفنان تدخل كل بيت مصري من خلال التلفاز أو السينما أو الإنترنت و يجب عليك أن تعلم أن الكثير من الشباب و الفتيات و حتى الأطفال ينظرون إليك نظرة القدوة و المثل الأعلى ، فيجب عليك أن تدرك حجم المسئولية الملقاة على عاتقك قبل أن تُقدِم على إختيار أي عمل فني قد تندم عليه مستقبلاً.

هذا كان بالنسبة للسينما والتليفزيون .. أما بالنسبة للموسيقى فحدث و لا حرج، فبعد أن كانت مصر هي هوليود الشرق في السينما و قِبلة الموسيقيين و مهد و منبع الملحنين و المطربين لا أدري ماذا حدث لها في هذا المجال على وجه التحديد ... مجال الموسيقى.

منذ صغري وأنا شغوف بذلك الفن الرائع الذي يُلهب الحواس و يُنقي الوجدان و يسمو بالنفس البشرية و يحملها فوق السحاب، لتلمس بيديك النجوم و تستمع إلى أصوات الملائكة حينما تتغنى كوكب الشرق في أُمسية رائعة بأعذب الأشعار و القصائد التي ألفها عباقرة الشعر كأحمد رامي و حافظ إبراهيم ، و أمتع الألحان للمبدعين من أمثال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ، و السنباطي والموجي و القصبجي ، و النابغة بليغ حمدي .

أذكر أني تعلمت العزف على البيانو منذ الصغر حباً في ذلك الجيل، و أذكر كم كانت سعادتي بالغة و نشوتي تبلغ ذروتها حينما أعزف روائع العندليب عبد الحليم حافظ و الموسيقار المبدع محمد فوزي و سفيرتنا إلى النجوم السيدة فيروز .

ثم كبرت و تقدمت في السن وإختطفني أسطورة العود فريد الأطرش ليأسرني بصوته و ألحانه ، الأمر الذي دفعني و أنا مُغمض العينين لأتعلم العزف على آلة العود حتى تمكنت فيه و أصبحت أجيد العزف عليه إجادة تامة.

كل هؤلاء نجوم لمعت في سماء الفن المصري خلال القرن الماضي ، تركت طابعاً خاصاً و حساً فنياً صادقاً في وجدان كل إنسان مصري بدايةً من موسيقار الأجيال و العندليب الأسمر و ملك العود و كوكب الشرق ، مروراً بوردة و شادية و نجاة ، وصولاً إلى عمر خيرت و عمرو دياب و محمد فؤاد و هشام عباس و نجوم فترة الثمانينات والتسعينات الذين كانوا و لازالوا لهم البصمة الفريدة و الإضافة المتميزة للموسيقى العربية.

ولكني لم أكن أعلم أبداً أن الأمر سوف يتدهور و ينحدر إلى هذا الحد .. هذا الحد الذي ظهرت فيه نوعية غريبة من الموسيقى التي ليست بموسيقى، والألحان التي ليست بألحان، يغني عليها مطربون والعياذ بالله من تلك الأصوات .. هي أغاني ما يسمى بأغاني المهرجانات المليئة بالكلمات المُنحطة الرديئة و الألفاظ التي هي أبعد ما تكون عن الإحترام و اللباقة ، و كيف لنا أن نستمع إلى مثل هذا السفه و الإسفاف ، و التي أدى إلى إنتشارها فساد الذوق العام و الإنحراف الفكري و الثقافي، والترويج لكل ما هو ردئ ووضعه على نفس المائدة بجوار كل ما هو جيد و مبدع .

إنتباه يا سادة ... أرجو الإنتباه و الحرص الشديد ، فنحن الآن على منعطف خطير ، و على شفا جرفٍ هار ، فإما اليقظة و التراجع .. و إما السقوط .. و إذا سقطنا فليرحمنا الله .

مَن منا سوف يُنقذ الجيل الجديد ، ذلك الجيل الصغير المتمثل في أولادنا و بناتنا من ذلك الفن العقيم حولنا من أفلام و مسلسلات و أغاني هابطة لا ترقى إلى أقل معايير الذوق الإنساني ؟؟.

تذكروا دائماً ... أن ما نزرعه اليوم نجني ثماره غداً .. و الله سبحانه و تعالى يقول : " البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبُث لا يخرج إلا نكِداً " صدق الله العظيم .

دعونا نزرع النبات الطيب و نغرس جذوره في أنفسنا و في أطفالنا ، كي نحصد ثمار ما غرسناه طيباً و ترقى بلادنا و تعود قِبلة الفن و منارة الشرق مرة أخرى .