رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «18»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب


عقب وصولي استوكهلم عاصمة السويد، وإيجاري لسكن بإحدى ضواحيها سارعت بالالتحاق بجامعة استوكهلم للحصول على ماجستير في العلاقات الدولية والاقتصاد الاندماجي الأوروبي منظمتا «EC» و«EFTA» فضلًا عن اللغة السويدية.


وسارعت بالكتابة لأبي زاعمًا أنني أقدمت على هذه الخطوة لتحسين مستواي العلمي والمادي ثم العودة لمصر فورًا بعد انتهاء دراستي ولم يقنع هذا الكلام والديّ وساءت حالتهما النفسية جدًا إلا أن مداومتي على الكتابة لهما ووعدي الحضور في مصر الأجازة فور انتهاء العام الدراسي الأول قد بدأ في تهدئة ألمهما وتحضرني في هذا المجال واقعة تشعرني بالمدى الذي حول عبد الناصر مصر فيه إلى سجن كبير وأنني كنت محقًا تمامًا في قرار الهجرة من هذا الجو الديكتاتوري الخانق.


فوجئت باتصال تليفوني من القنصل المصري باستوكهلم بعد أن سجلت نفسي في السفارة بأيام يرجوني الحضور للقائه ولما ذهبت إليه فجئني بقوله أنني قد حضرت السويد في أجازة كمرافق لزوجته الأجنبية، أما وقد التحقت بالجامعة وقررت الإقامة بالسويد فيتعين حصولي على أذن إقامة بالخارج من إدارة الجوازات في مصر، وكتب خطابًا للإدارة بالقاهرة يطلب الرأي في وضعي وسرعان ما جاء الرد برفض بقائي  في الخارج للدراسة ولو على نفقتي ما لم أوضع تحت إشراف الإدارة العامة للبعثات إشرافًا علميًا على الأقل.


وسارع أبي بالتوجه لإدارة البعثات لوضعي تحت الإشراف العلمي لديها وسأله الموظف المختص عما إذ كنت أعزب أم متزوج ولما أجاب أبي بأنني متزوج من سيدة سويدية تغير وجه الموظف وأخبر أبي أن هناك قرار لوزير التربية والتعليم صدر في أول يناير سنة 1960 يحظر سفر زوج الأجنبية للدراسة ولو على نفقته.


وأسقط في يد أبي فالمعني واضح إما أن يعود ابنه لمصر ويضحي بدراسته وإما أن يلغي جواز سفره وتسقط عنه الجنسية المصرية وتدخلت عناية الله رأفة بوالديّ في إيجاد حل لم يخطر على بال أحد كان زوج عمتي المرحوم فريد بك المليجي أحد وكلاء وزارة التربية والتعليم تحت رئاسة وزيرها الشهير عندئذ كمال الدين حسين وكان الوزير بالصدفة تلميذًا في المدرسة الثانوية عندما كان زوج عمتي مدرس بها قبل سنوات عديدة لذلك كان يعامله بمعاملة خاصة ولما وضع زوج عمتي الحالة أمامه وأن سيتسبب دون أن يدري في تدمير شيخين بريئين هما أبي وأمي لمجرد أن ابنهما يريد استكمال دراسته في الخارج طلب منه الوزير تقديم مذكرة باستثناء حالتي على أساس أن زواجي من أجنبية كان في يوليو سنة 1959 في حين أن قرار الحظر صدر بعدها في يناير سنة 1960 ووقعه الوزير دون أن يذكر ودون أن يطلب ممن قدم له مثل هذا القرار الشاذ تفسير لذلك.


بطبيعة الحال كانت رسالة الماجستير التي سجلتها بجامعة استوكهلم عن القضية الفلسطينية ودور أمريكا في إنشاء إسرائيل – كانت معركة التحرير العربية الدائرة عندئذ محور حياتي وفكري ومشاعري – وكانت حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي دائرة وقتها بضراوة منذ ست سنوات ولم تكن تبدو لها نهاية عندئذ – وقدمت عن العام الأول للدراسة بحثًا مطولًا عن ثورة الجزائر كمقدمة ضرورية حسب النظام الجامعي قبل تقديم رسالة الماجستير.


انكببت في نهم على دراسي كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية تمهيدًا لكتابة رسالتي ولم تستطع الجامعة توفير المراجع التي كنت أحتاجها كلها، فقد كانت قضية فلسطين برمتها هامشية بالنسبة لبلد مثل السويد، وبالتالي لم تكن في مكتبة الجامعة كل ما احتاجه من مراجع، ولكن سكرتيرة الجامعة أخبرتني أن أهم مكتبة في السويد تغطي هذا الموضوع هي مكتبة «الجمعية الموسوية» المملوكة للأقلية اليهودية بالسويد.


كان عدد يهود السويد سنة 1960 ثلاثة عشر ألف من مجموع الشعب السويدي البالغ عندئذ 7.2 مليون شخص، أي كان اليهود أقل من 0.02% من السويديين، ومع ذلك كانوا يملكون أكبر دار نشر تصدر عشرة صحف ومجلات ضمنها أكبر صحيفتين يوميتين ويملكون ثاني أكبر بنك بالسويد، كما كانوا يملكون معظم الصناعة الحربية الموجودة عندئذ وعلى رأسها مدافع بوفرز السويدية الشهيرة.


أبلغت سكرتيرة الجامعة أنني غير متحمس لاستعمال مكتبة الأقلية اليهودية، فأنا من بلد عبد الناصر عدو إسرائيل اللدود، فحاولت إقناعي بأن يهود السويد لا علاقة لهم بإسرائيل – ولم يكن ذلك صحيحًا قط – وكتبت لمدير المكتبة بشأن حضوري ورحب الرجل ترحيبًا مبالغًا عند أول زيارة فقد كانت إسرائيل وقتها تلعب دور الحمل الوديع المحاط بذئاب تحاول افتراسه وأنها لا تتمنى سوى العيش في سلام وسط أبناء عمومتها الساميين من العرب وتظاهرت بالتصديق وأصبحت المكتبة اليهودية باستوكهلم هي المكان الذي أقضي فيه الساعات الطويلة بعد محاضرات الجامعة.


وأعود الآن في عجالة إلى أحوال مصر ودولة الوحدة العربية الأولى قبل أن أنهي هذا الفصل وأبدأ الفصل الرابع الذي خصصته بأكمله لدراسة مختصرة للصراع العربي الإسرائيلي لإيماني الكامل – خاصة بعد كل سنوات دراستي وقراءتي – أن هذا الصراع هو صراع وجود وليس صراع حدود على قطعة أرض هنا أو هناك.


بعد صدور قرارات التأميم التي أصدرها عبد الناصر في يوليو سنة 1961 وتفجر الأوضاع داخل سوريا نتيجة اختلاف النظام الاقتصادي السوري تمامًا عما كان عبد الناصر يهدف إليه وكما قلت أعلاه بدأ استقالات ضباط الوحدة القوميين تتوالى وبدأت أركان الوحدة تترنح في سوريا ولم يبق مع عبد الناصر من ضباط الوحدة القياديين السوريين سوى المقدم عبد الحميد السراج قائد المخابرات السورية كانت الوحدة تعني بالنسبة السراج أن يكون هو حاكمًا مُطلقًا للإقليم الشمالي في دمشق تحت مظلة الحاكم المُطلق لدولة الوحدة في القاهرة.


ولم يكن هذا هو ما يراه السوريون وما هي إلا أشهر قليلة حتى وقع انقلاب عسكري في سوريا ضد الوحدة بقيادة عبد الكريم النحلاوي الذي أيدته أغلبية الجيش السوري وفشلت محاولة تدخل عسكري قصيرة من جانب عبد الناصر في إجهاض، وهكذا انهارت أول وحدة عربية في العصر الحديث وانفصلت كل من مصر وسوريا عن بعضهما ورغم حماس شعب الإقليمين لفكرة الوحدة العربية فإن فشلها يعود في اعتقادي إلى أنها كانت وحدة فوقية بين ديكتاتوريات عسكرية مهما كانت الشعارات النبيلة التي رفعتها، ولم تكن للقوى الشعبية وتنظيماتها المدنية أي دور حقيقي في الوحدة سوى التأييد والهتاف لها، ولم يكن هناك وجود لأي من التنظيمات التي تنشئ الوحدة وتفعلها كما فعلت الوحدة الأوربية مثلًا من بناء صرحها خطوة خطوة.