رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «17»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب


كانت أمريكا تقف بصورة أو أخرى وراء الانقلابات العسكرية الثلاث، وأخيرًا تمكن الضباط الوطنيون بالجيش السوري المنتمون لفكر القومية العربية مثل مصطفى حمدون ورفاقه من إسقاط حكم الشيشكلي وإقامة حكم مدني منتخب كان رئيس الجمهورية فيه رجلًا يحظى برضاء أغلبية السوريين وهو شكري القوتلي وكان رئيس الوزراء بعد ذلك أحد أشهر أقطاب القومية العربية وهو صلاح البيطار وقد وقف الضباط القوميون بالجيش السوري بصلابة في تأييد عبد الناصر خلال العدوان الثلاثي سنة 1956 وقاموا بتدمير خط أنابيب النفط القادم من العراق إلى البحر الأبيض لحرمان الغرب منه.


وكانت نتيجة التقارب مع الاتحاد السوفيتي زيادة نفوذ الفكر الشيوعي في المنطقة العربية، وفي سوريا تحديدًا كان النفوذ الشيوعي قد وصل إلى درجة يحتمل تهديدها للنظام الديمقراطي الناشئ بعد الانقلابات العسكرية، كان خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري شخصية قوية ذات سجل كفاحي كبير.


ولذلك أجمع الضباط القوميون التابعون لفكرة القومية العربية في الجيش السوري أمرهم على أن أفضل حل لإيقاف الخطر الشيوعي على سوريا دون استفزاز الاتحاد السوفيتي وخسران تعاونه مع العرب هو إقامة وحدة بين مصر وسوريا تحت زعامة عبد الناصر التي وصلت وقتها لقمة الصعود في العالم العربي كله من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي، كان ذلك هو المخرج في نظر الضباط السوريين.


وحضر وفد ضباط الجيش السوري لمصر أول فبراير سنة 1958 وتم الاتفاق على الوحدة الاندماجية بين البلدين في 22 فبراير تحت مسمى «الجمهورية العربية المتحدة» وأصبحت سوريا الإقليم الشمالي ومصر الإقليم الجنوبي وأصيب فيصل ملك العراق وحسين ملك الأردن بالفزع من هذه الوحدة فقد كان كلاهما مواليًا للغرب في الوقت الذي كان الشارع العربي فيه يعادي الغرب وسياساته وتأييده لإسرائيل عداء لدودًا، وسارع الملكان بإعلان وحدة بين العراق والأردن تسمى «الاتحاد العربي» برئاسة فيصل وأصبح حسين نائبًا له.


وما هي إلا بضعة أشهر وإذا بالجيش العراقي ينفجر في انقلاب يقوده ضباط قوميون عرب من أتباع حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أسسه ميشيل عفلق ورفاقه، وكان انفجار الجيش العراقي يوم 14 يوليو سنة 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم ونائبه العقيد عبد السلام عارف، وأعدموا الملك فيصل وخاله الأمير عبد الإله الذي كان وصيًا على عرش العراق قبل وصول فيصل للسن الذي اعتلى فيه العرش.


وليس موضوع هذا الكتاب تتبع الانقلابات والثورات العربية فنقف عند هذا الحد بعد إيضاح الصلة بين هذه الأحداث وتطور أوضاع مصر بعد الوحدة بين مصر وسوريا والحماس الجنوني الذي قابل الشعب السوري عبد الناصر لدرجة رفعه عن أرض الشارع في إحدى المظاهرات وهو داخل سيارته، أصيب عبد الناصر بجنون عظمة حجب عنه رؤية أوضاع سوريا على حقيقتها لم يدرك أن النظام الاقتصادي في سوريا قائم على حرية الإنتاج والتجارة تمامًا بينما كان عبد الناصر يخطط لتأميم الإنتاج في شطري الجمهورية العربية المتحدة، وهو التأميم الذي وقع في يوليو سنة 1961 وكان السبب المباشر في انفصال سوريا عن مصر بعد ذلك بأشهر تقل عن أصابع اليد الواحدة كما سنذكر في حينه، ولم يدرك أن المجتمع السوري تحكمه الولاءات العشائرية والطائفية إلى درجة قد تفوق الولاء للدولة الأم سوريا أحيانًا بعكس المجتمع المصري الزراعي المستكين للسلطة المركزية مئات بل آلاف السنين.


سار عبد الناصر في الدولة الموحدة بشقيها على أساس سياسة استبدادية بحزب واحد هو الاتحاد القومي مع حل كل الأحزاب السورية بما فيها أحزاب البعث صاحب مشروع الوحدة، وبدا واضحًا أن سوريا ومصر تتجهان إلى قيام دولة شمولية مؤممة الاقتصاد والإعلام، ولم يكن ممكنًا لزعامات سوريا المختلفة الاتجاهات قبول ذلك، فبدأت استقالاتهم من حكومة عبد الناصر تتوالى فاستقال صلاح البيطار واعتزل شكري القوتلي الأب الروحي للوحدة العمل السياسي بعد أن كانت الجماعير قد أطلقت عليه لقب المواطن العربي الأول.


أعود لحياتي الشخصية فأذكر أنه بعد زواجي في يوليو سنة 1959 طلبت نقلي لمكتب مصلحة السياحة في بورسعيد حتى أبدأ حياتي الجديدة مع زوجتي بعيدًا عن نفوذ الأسرة والأصدقاء وكنت أراقب في قلق شديد الخطوات المتتالية التي كان يتخذها عبد الناصر لإحكام قبضته الدكتاتورية على السلطة.


بدأت إجراءات عديدة في هذا الاتجاه مثل منع سفر المصريين لاصطياف في الخارج بدأ من صيف سنة 1956 فاقتصر السفر على السفريات الرسمية والحج.


وفي مطلع سنة 1960 اتخذ عبد الناصر خطواته الحاسمة للسيطرة التامة على الإعلام عن طريق تأميم الصحافة تمامًا.


لم يكفيه وجود رقيب يراقب ما ينشر في الصحف فأراد أن يحول كل الصحفيين وأهل الرأي إلى موظفين يعملون لديه في الصحف التي أصبحت مملوكة للدولة أي أن علي الصحفي أن يأكل من يد عبد الناصر أو يموت جوعًا.


كان تأميم الصحافة بالنسبة لي هو القشة التي قصمت ظهر البعير، لم أكن أعمل بالصحافة ولم يكن لأي من أفراد أسرتي مالكًا لحصيفة أو مجلة تم تأميمها ولكن فكرة العيش في بلد صحافته مؤممة تنطق بلسان الحاكم المطلق وحده كانت مفزعة لتفكيري بعد كل ما حصلته من قراءات وخبرة عملية قصيرة نسبيًا وقتها.


قررت على الفور الهجرة إلى خارج مصر لبلد يتمتع بحريته لم أجرؤ على إعلان رغبتي لأبويّ حتى لا يسحقها الألم نظرًا لتلعقهما الشديد بي وبإخوتي.


كان من حسن حظي أن وجدت أن قرار منع سفر المصريين للخارج في غير المهام الرسمية به استثناء واحد للمصري المتزوج من أجنبية يسمح له بالسفر مرافقًا لها مرة كل سنتين لزيارة أهلها، صارحت زوجتي سرًا بما أنوي وفرحت هي أشد الفرح بأننا سنسافر لبلدها وتكون قريبة من أهلها.


وفي 2 يونيو سنة 1960 كنت قد أعددت كل أوراق الرحلة وتصريح السفر وحصلت على أجازتي السنوية وصعدت الباخرة في بورسعيد وقتها إلى تريستا ثم بالقطار خلال أوربا إلى السويد، وقد توقفت الباخرة عدة ساعات في ميناء برنديزي في أقصى جنوب إيطاليا في طريقها إلى تريستا وكنت قد أعددت معي خطاب استقالتي من مصلحة السياحة، وعند التوقف في برنديزي سارعت بإرسال خطاب استقالتي بالبريد المسجل من مينائها حتى لا أضعف وأتراجع عن قرار الهجرة.