رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «16»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب


أقدمت على ترجمة الكتاب من الإنجليزية للعربية بعد أن ازدادت ثقتي في مستواي في الإنجليزية نتيجة القراءة المتواصلة، نشرت الكتاب مترجمًا باسمي على نفقتي الخاصة لسببين:


الأول: أن دور النشر اليسارية التي كانت قد بدأت تنشر الكتب الشيوعية بعد سماح عبد الناصر لها بذلك نتيجة تقاربه مع المعسكر الشرقي الذي ازداد جدًا بعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1965 كما سيأتي، لم تتحمس دور النشر اليسارية لنشر ترجمة كتاب بمثل هذه الأهمية في الثقافة الشيوعية باسم شاب دون أي خبرة سابقة في عالم النشر وليس له اسم معروف في مجال الإعلام.


السبب الثاني لنشره على نفقتي فقد كان شعلة التحدي التي أشعلها موقف دور النشر مني كان ضروريًا أن أثبت لنفسي قدرتي على مواجهة أول تحدي من نوعه، ولم تكن مواردي وقتها تسمح بتمويل نشر الكتاب فلجأت إلى أبويّ وبعض أصدقاء فكري المقربين، وأصررت على أن يكون ما استدانته منهم دين أعطيهم به إيصال وأسدده لهم فور بدء توزيع الكتاب وحتى أعطي فكرة عن فوق أسعار المعيشة بين وقتها وبين الآن فقد قمت بطبع ألف وخمسمائة نسخة من الكتاب كلفتني قرابة المائة جنيه وكان هذا المبلغ أكثر من ستة أشهر من مرتبي الشهري في مصلحة السياحة، وكنت أبيع النسخة بعشرين قرشًا وخلال أربعة أشهر كنت قد سددت كل ما اقترضته وحققت ربحًا يكاد يصل إلى ضعف ما أنفقته، وكانت سعادتي غامرة تفوق الوصف وكان فرحي بهذه الدفعة من الثقة بالنفس شيئًا كان أثره كبيرًا في حياتي المستقبلية.


أترك هنا حياتي الشخصية لأعود لحياة بلدي الحبيب مصر كانت السنوات من سنة 1955 حتى تركي مصر في صيف سنة 1960 مليئة جدًا بالأحداث الجسام التي مازالت مصر لليوم تعيش توابع زلزال هذه السنوات فحتى مطلع سنة 1955 كانت مصر دولة تدور في فلك الغرب، وكانت الجيوش البريطانية ما زالت لم تنسحب كلية من أرضها، ولما بدأت مصر تشعر بالخطر الحقيقي الذي يمثله قيام دولة إسرائيل، وكانت الدولة التي نشأت سنة 1948 قد استقرت وأصبحت قادرة على تهديد مصر تهديدًا حقيقيًا تمثل في صورة غارات إسرائيلية مكثفة على بعض مواقع الجيش المصري في سيناء، كانت إسرائيل تستخدم قوات برية كبيرة في هذه الغارات المفاجئة تقتحم أرض سيناء وتدمر بعض مواقع الجيش المصري بسيناء ثم تنسحب بعد أن تكون قد قتلت العديد من الجنود ودمرت العديد من العتاد وكانت حجة إسرائيل الدائمة هي أن هذه الغارات كانت ردًا على أعمال الفدائيين الفلسطيين المنبعثة من أرض سيناء.


وكانت بعض أكبر الهجمات الإسرائيلية على مصر هي ما وقع على موقعي الصبحة وأبو عجيلة خلال سنة 1954 وقتلت إسرائيل في كل منها ما يزيد عن ثلاثين ضابطًا وجنديًا بخلاف الدمار المادي وثار الرأي العام في مصر وطالب عبد الناصر بالتحرك مع أصدقاءه الأمريكان لتسليح الجيش المصري وسرعان ما أدرك عبد الناصر أن أمريكا والغرب عمومًا يلعبون به ولن يسمحوا للعرب بالتسلح بما يهدد وجود إسرائيل.


اتخذ عبد الناصر خطوة فارقة في تاريخ مصر والمنطقة لم يتجه إلى الاتحاد السوفيتي زعيم المعسكر الشيوعي مباشرة حتى لا يتحدى أمريكا علنًا بصورة تضطرها للانتقام منه وجعله مثلًا لمن يتمرد عليها من القادة العرب.


لجأ عبد الناصر إلى تشيكوسلوفاكيا إحدى دول المعسكر الشيوعي وأكثرها تطورًا صناعيًا بعد روسيا وعقد معها صفقة أسلحة ضخمة شملت طائرات ودبابات ومدافع مضادة ثم اتخذ عبد الناصر خطوة ثانية نحو اليسار باعترافه بحكومة الصين الشيوعية ممثلًا لكل الشعب الصيني بدلًا من الحكومة التابعة لأمريكا بقيادة المارشال شيانج كاي شيك والتي أخذت جيوشها تتراجع في وجه الزحف الشيوعي على كل أرض الصين، وانسحاب القوات الموالية لأمريكا إلى جزيرة فرموزا الصينية وأقامت فوقها دولة تايوان الحالية.


كانت خطوة عبد الناصر في الاعتراف بحكومة بكين وسحب اعتراف مصر بحكومة فرموزا خطوة جريئة جدًا وقتها أثارت موجة هائلة من التأييد لها في الشارع العربي كله، وقررت كل من حكومة فرنسا وانجلترا ومن وراءهما إسرائيل ضرب جيش عبد الناصر وتحطيمه قبل أن يستوعب الأسلحة التشيكية ويصبح خطرًا عسكريًا مدمرًا لإسرائيل، أما أمريكا فمع تأييدها لحلف الأشرار الثلاثي كانت تريد أن يتم هجومهم على مصر فتتدخل هي لإيقاف القتال وخروج القوات المعتدية من مصر ثم تدخل هي بنفوذها ثم قوتها فيما بعد وهكذا تبتلع أمريكا منطقة نفوذ الاستعمار القديم البريطاني / الفرنسي وتحل محله، وانتهز حلف الأشرار الثلاثي واقعة تأميم عبد الناصر شركة قناة السويس التابعة لإدارة ونفوذ فرنسا وبريطانيا وقتها في 26 يوليو سنة 1956 وأعد أشرار الحلف الثلاثي جيوشهم وهجموا على مصر في 29 أكتوبر سنة 1956 وانفجر العالم العربي كله بالثورة العارمة بتأييد لمصر ولعبد الناصر، وحتى الحكومات العميلة للغرب اضطرت لتأييد مصر بسبب ضغط شعوبها عليها.


وكانت أزمة عالمية ضخمة كان يمكن أن تتطور إلى حرب نووية بين المعسكرين الغربي والشيوعي، ولكن التدخل الأمريكي حسم الأمر وانسحبت الجيوش المعتدية من أرض مصر وفازت أمريكا بالجائزة الكبرى وأصبحت صاحبة النفوذ الوحيد في مصر ومن ورائها كل المنطقة وخلال سنة 1957 كانت المنطقة تعاني توابع زلزال العدوان على مصر، كان الأردن يموج بالاضطرابات والتظاهرات تأييدًا لمصر ولعبد الناصر، وأخيرًا كشف ملك الأردن الراحل حسين عن حقيقة اتجاهه وأقال حكومة سليمان النابلسي الوطنية التي كانت تقف ضد العدوان ووضع في السلطة حكومة قمعت التظاهرات الشعبية تمامًا مؤقتًا.


أما سوريا التي كانت دائمًا القلب النابض لفكرة القومية العربية والتي أنجبت أبرز منظري فكرة القومية العربية الحديثة مثل ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني فقد كانت تجتاحها قلاقل عنيفة نتيجة انغماس الكثير من ضباط جيشها في السياسة وانتمائها لتيارات سياسية متعددة.


وكانت النتيجة وقوع أول انقلاب عسكري عربي بعد الحرب العالمية في سوريا سنة 1949 بقيادة الفريق حسني الزعيم تلاه انقلاب ثاني بعد أقل من خمسة أشهر بقيادة اللواء سامي الحناوي الذي أعدم حسني الزعيم ورئيس وزرائه المدني محسن البرازي وتلت ذلك فترة قصيرة وقع بعدها الانقلاب العسكري الثالث بقيادة العقيد أديب الشيشكلي الذي استطاع الاحتفاظ بالسلطة حتى سنة 1954 في ربيعها.