رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «15»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب


قطعًا بدأ إلحادي يهتز بشدة وبدأت أدرك أن هذا الكتاب الذي بين يدي مستحيل تمامًا أن بشرًا كتبه في القرن السابع الميلادي وأن هناك قوة كبيرة مسيطرة هي التي أرسلته وهي التي تدير هذا الكون بدقة متناهية وإن كنا لا ندرك كنهها.


وحسمت عودتي للإسلام عندما قرأت في سورة القيامة: «أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)» وكلمة بلى في العربية تعني شيئًا أكبر من شيء فكيف يكون تسوية البنان أي طرف الإصبع أصعب من جمع عظام الميت عند البعث؟ التفسير الوحيد هو أن البنان به بصمة الإصبع التي تختلف بين تريليونات البشر على مر الزمان من شخص لآخر حيث أن بصمة الإصبع لم يعرف سرها إلا في مطلع القرن العشرين فمستحيل تمامًا أن يكون محمد (ص) قد علم سرها في القرن السابع الميلادي فلابد أنها وصلته من قوة غير منظورة تمامًا على هذا الكون.


وهكذا عدت عبدًا مؤمنًا لهذه القوة الهائلة غير المنظورة واستأنفت عبادتها في الصيغة الإسلامية التي نشأت عليها وفضلت الجوع إليها مع أنني قد قرأت خلال قراءاتي كلا من التوراة وإنجيل «متّى» وأعجبت كثيرًا بما فيهما ولكنني مع ذلك أثرت الاستمرار على الصيغة الإسلامية من الكتب المقدسة لتعمقي فيها طوال حياتي.


ظلت صداقتي لمستجير قوية وظل إعجابي بذكائه وسعة إطلاعه يزداد ويزداد احترامي لقيمه الأخلاقية القويمة رغم إلحاده، ولم يفرقنا إلا الزمن بعد ذلك بعدة سنوات عندما قبض عليه سنة 1959 في قضية شيوعية وحكم عليه بالسجن خمس سنوات، وتركت أنا مصر بعدها سنة 1960 إلى غيبة طالت أكثر من ربع قرن كما سأوضح أسبابها في حينه.


أعود إلى دراستنا في كلية الحقوق وتخرجنا نحن الأربعة في نفس العام سنة 1953 وكان مستجير أكثر تفوقًا وخلال سنوات الدراسة قرب نهايتها وقعت أحداث جسام في مصر، ألغى النحاس باشا المعاهدة مع إنجلترا سنة 1951 وبدأ الكفاح المسلح، ثم دبرت مؤامرة حرق القاهرة والإطاحة بأخر حكومات الوفد ثم وقع الإنقلاب العسكري في 23 يوليو سنة 1952.


وعندما تخرجت من كلية الحقوق سنة 1953 لم أستطع العمل في أي وظيفة حكومية تقدمت لها ونجحت في الاختبار لأن إجراءات التعيين تقضي بضرورة موافقة المباحث العامة (أمن الدولة حاليًا) على تعيين أي موظف، فقد كان الرفض دائمًا مصير طلبي لأنني وأسرتي ننتمي إلى «العهد البائد» الذي أسقطه الإنقلاب العسكري.

وأخيرًا اتجه أبي إلى البحث عن عمل لي في القطاع الخاص فلجأ إلى صديقه المرحوم عبد الحميد بك سراج الدين، رئيس بنك القاهرة عندئذ الذي كانت أسرته تملك حصة كبيرة من رأسمال البنك، كان ذلك يوم 24 سبتمبر سنة 1953 وكنت مع أبي في مكتب عبد الحميد بك الذي رحب بي وطلب مني الحضور اليوم التالي لاستلام عملي محاميًا بإدارة قضايا البنك، ولأن القدر كان يرتب لي شيئًا أخر فقد اقترح أبي أن أبدأ عملي من أول أكتوبر كشهر جديد، ووافق عبد الحميد بك وطلب من سكرتيره إدخالي لمكتبه فور حضوري يوم أول أكتوبر.


وفي الموعد المحدد ذهبت وطلب مني السكرتير الانتظار بضعة دقائق لأن عبد الحميد بك كان معه مكالمة تليفونية هامة وأمر لي بفنجان قهوة خلال دقائق الانتظار، وقبل أن أرشف الرشفة الأولى من القهود دخل رجل قصير ذو شارب كثيف وملامح جامدة تميل إلى العدوانية، وسأل السكرتير في استعلاء: «عبد الحميد سراج الدين موجود؟» ولما أجاب السكرتير بالايجاب قال الرجل في غلظة: «قل له أن اليوزباشي حسن زكي بمحكمة الثورة يريد رؤيته فورًا» ودخل السكرتير وخرج معه عبد الحميد بك حيث اصطحبه حسين زكي إلى المعتقل حيث كانت محكمة الثورة كإحدى محاكم العدالة العسكرية التي أنشأها الإنقلاب تقوم بتصفية من كانوا يسمون رجال العهد البائد، وكان هذا أول وأخر اتصال لي ببنك القاهرة.


كان أبي حزينًا بالمنزل لعجزه عن إيجاد عمل لأبنه وقرر على الفور إعادة فتح مكتبه للمحاماة الذي كان قد أغلقه سنة 1924 عندما عينه سعد باشا وكيلًا للإدارة التشريعية بمجلس الشيوخ وعملت مع أبي محاميًا طول سنة 1954، وخلالها كانت حذوة اضطهاد «العهد البائد» قد خمدت وأمكن التحاقي بخدمة الحكومة في مطلع سنة 1955 بالإدارة القانونية لوزارة التجارة والصناعة التي انتدبني وزيرها الدكتور محمد أبو نصير سكرتيرًا قانونيًا له ثم ساعدني في النقل إلى مصلحة السياحة (لم تكن السياحة قد أصبحت وزارة وقتها) على أمل النقل فيما بعد إلى إحدى الدول الأوربية كملحق سياحي.


وبقيت في عملي بوزارة السياحة قرابة الخمس سنوات حتى مايو سنة 1960 تدفقت خلالها مياه غزيرة من الأحداث في حياة كل من مصر وحياتي الشخصية، فبالنسبة لحياتي الشخصية قابلت فتاة سويدية كانت تزور أقارب لها في مصر، ونشأ بيننا حب جارف وعلى مدى عام ونصف وخطابات بلغت قرابة الخمسمائة خطاب قررنا الزواج الذي تم في سنة 1959 وأصبحت أما لإبنتي وعشنا أغلب سنوات زواجنا خارج مصر لما أسوضحه فيما بعد إلى أن شاء الله أن نفترق في صيف سنة 1972 ولم تخمد حياتي الفكرية وقراءاتي المتواصلة طوال سنوات عملي بمصلحة السياحة بل ازدادات اتساعًا وعمقًا.


وفي سنة 1957 قمت بأول تجربة لترجمة أحد أهم كتب الثقافة الماركسية وهو كتاب «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» لفردريك إنجلز وهو الكتاب الذي كان لينين مؤسس أول حكومة شيوعية سنة 1917 يعتبره أحد دعامات الاشتراكية العلمية.