رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «14»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب


كما ذكرت كنا نحن الأربعة نتطرق للأحاديث في السياسة والموقف الداخلي خلال فترات الراحة من المذاكرة، وفجأة بهرنا مستجير بتحليل جديد تمامًا على مسمعنا، كان مستجير شديد الذكاء عزير المعلومات ويجيد اللغة الفرنسية إجادة تامة ويقرأ كتبها من منابعها، فاجأنا مستجير بأن ما نراه على الساحة وما ننظر إليه كأطماع قومية لبعض الدول ما هو إلا حلقات في الصراع العالمي الأكبر وهو الصراع الطبقي بين الطبقات المالكة والطبقات المحرومة على مستوى الدولة وعلى مستوى العالم بين الدول.


صارحنا مستجير بأنه عضو في أكبر التنظيمات الشيوعية السرية وقتها وهي «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» وكان رمزها الشهير «حدتو» لم يطلب منا الانضمام لحركته السرية، ولكنه بدأ يعرض لنا بعض النشرات السرية التي كانت تصدرها وتحلل فيها الصراع في مصر من منظور طبقي محض، وبدأ يعرض علينا الفلسفة التي يقوم عليها هذا الصراع وهي الفلسفة الشيوعية المسماه عالميًا «المادية الجدلية» ويذكر لنا الحصيلة الهائلة من الكتب الشيوعية التي ألفها أبو الشيوعية كارل ماركس ورفيق عصره فردريك إنلجز.


أصابنا قلق شديد عندما بدأ مستجير يشرح لنا بعمق معنى الصراع الطبقي، كنت حتى وقتها أعتبر نفسي مصريًا متطرفًا في مصريته وولائه لبلده.


وكنت شديد الاعتزاز بحزب الوفد الذي كان حزب الأمة المدافع عنها ضد استبداد الملك وتغول الاستعمار البريطاني وشديد الفخر بأن جدي كان أحد مؤسسي هذا الحزب العريق، وكانت من أسعد لحظات حياتي عندما يأخذني أبي معه في الأعياد والمناسبات الوطنية إلى منزل الزعيم الخالد مصطفى النحاس لتهنئته بالعيد، كنت أقبّل يد الزعيم الخالد ثم أضعها فوق جبهتي على عادة التوقير في هذا الزمن الجميل، فيضمني الزعيم الخالد إلى صدره في حنان أبوي يوصلني إلى ما يقرب من الثمالة، وكنت أنظر لشعبنا كله بكل طبقاته من عمال وفلاحين وأعيان ككتلة واحدة تقف في وجه الاستبداد الملكي والتغول الاستعماري.


أصابني كلام مستجير عن الصراع الطبقي بقلق شديد فجأة أجدني حسب تحليل مستجير منتميًا لطبقة من الأعيان والملاك التي تنهب الطبقات الفقيرة من عمال وفلاحين وتسلبها جزءًا كبيرًا من رزقها وتسخيرها لخدمتها.


قررت على الفور أن أغوص في الفكر الشيوعي وفلسفته وأن أقرأهما من مصادرهما، وخصصت الأجازة الصيفية سنة 1950 بعد انتهاء الامتحانات لهذا الغرض، ورغم المشقة الشديدة أول الأمر في قراءة هذه الكتب وكانت كلها بالإنجليزية انكببت عليهما في نهم وكانت إحدى النتائج السعيدة التي حققها هذا النهم في القراءة أنني أصبحت في خلال سنوات قليلة أجيد الأنجليزية إجادة تامة فتحت لي فيما بعد آفاقًا هائلة في استكمال دراستي.


كنت رغم عدم ارتياحي الكامل في البداية لمستجير ولتحليلاته الطبقية شديد القرب منه أسأله ما أناقشه في كل ما أقرأ فيشرح لي ما لم أكن أعرفه وقتها.


وبمرور الوقت ودفء العلاقة عرض مستجير على ثلاثتنا الانضمام إلى حزبه الشيوعي السري بعد أن أدرك أن كلامه عن الصراع الطبقي أثر فينا وأشعرنا بشيء من الخطأ نحو الطبقات الفقيرة التي كان المفروض أن طبقتنا تستغلها وإندمجنا بحذر في العمل السري الشيوعي وتجهيز المنشورات ونحو ذلك مع تجنب تعرضنا لمخاطر شديدة مع البوليس ما أمكن، فلم نكن نشترك في توزيع المنشورات في الأحياء الفقيرو كما كان يفعل بعض أعضاء الحزب، وقادني إندماجي في الفكر الشيوعي إلى ضرورة دراسة الأساس الفلسفي له وهو «المادية الجدلية» وكانت لحظة فارقة في حياتي زلزلت كل كياني حيث لم أدرك توابعها حين بدأتها.


باختصار شديد تقوم فلسفة المادية الجدلية على أساس علمي براق جدًا بالنسبة لأنصاف المتعلمين فهي فلسفة إلحادية لا تؤمن بوجود إله لهذا الكون، وتقول بوضوح أن المادة لا تفنى ولا تستحدث، وأن العدم لا ينتج عنه شيئًا، وبالتالي فإذا كان هناك إله خلق هذا الكون فإنه لابد وجد المادة التي صنع منها، وهذا ليس خلق بل تصنيع، أما إن كان كما يزعم المؤمنون به قد خلق من عدك فإن هذا يتنافى تمامًا مع ما يؤكده العقل وهو أن المادة لا تفنى ولا تستحدث وأن العدم لا ينتج شيئًا.


بهرتني الفكرة تمامًا ووجدتني أنزلق رويدًا رويدًا إلى الشعور بإنني أعيض في وهم كبير اسمه الإيمان بقوة غير منظورة خلقت الكون وأصلي وأصوم لها مع ما في ذلك من تناقض مع العقل وصلت إلى لحظة اقتناع كامل بهذه الفلسفة ووجدت إنني قد ألحدت فإمتنعت عن الصلاة والصوم لمدة عام كامل تقريبًا وطبعًا أخفيت إلحادي عن والديّ وأسرتي حتى لا يسحق فعلي مشاعرهم ولم يعلم به طبعًا سوى مستجير وزملائي من أعضاء «حدتو».


ثم بدأت أقرأ القرآن الكريم ككتاب تاريخ لا أدري لما يؤمن الناس به، ووقعت عيناي على أول آية في مطلع سورة البقرة « الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)» أي أن هذا الكتاب ليس لي لأنني لم أعد أؤمن بالغيب ومع هذا استمرت قراءتي للقرآن ولتفسيراته لأرى كيف يؤمن آلاف الملايين هكذا بما يتعارض مع العقل كما توضحه المادية الجدلية، وأخذت رحلة طويلة مع المصحف أتردد خلالها مع نفسي وأكاد اقترب ثانية من الإيمان كلما قرأت نصًا علميًا مفحمًا وفكرت كيف امكن لمحمد (ص) في القرن السابع الميلادي معرفة أن الكواكب تدور في أفلاك مثل الآية الكريمة في سورة يس «لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)» كيف أمكن لمحمد (ص) معرفة دوران الكواكب حول نفسها وهي حقيقة لم يعرفها جاليليو إلا بعد ذلك بقرون عديدة، وحين أعلنها حاكمته الكنيسة وحكمت بإعدامه.


وحين أقرأ آية «حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)» هل هناك مشرقان وكيف علم محمد (ص) بذلك؟ نعم هناك مشرقان فعندما تشرق الشمس في ناحية وتغرب في أخرى نتيجة دوران الأرض فهناك مشرقين.