رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «12»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب


واستمر التفاوض حتى منتصف سنة 1947 عندما انتهى صدقي إلى مشروع معاهدة بربط مصر بالاستعمار البريطاني للأبد، واشتعلت الثورة في مصر من جديد ونجح الشعب في إسقاط مشروع معاهدة صدقي مع الإنجليز التي كانت تسمى معاهدة «صدقي – بيفن» على اسم وزير خارجية بريطانيا عندئذ.

وكانت القوة الشعبية الوحيدة التي وقفت بجانب صدقي هي جماعة الإخوان المسلمين بقيادة مرشدها العام الراحل حسن البنا، ولكن الأغلبية الشعبية العارمة كانت ضد مشروع المعاهدة وأسقطته.

وكان حزب الوفد في طليعة الحركة الوطنية المناهضة للمعاهدة المقترحة، وكان يمثل الأغلبية الساحقة في الشارع المصري، وسنترك هنا دور جماعة الإخوان المسلمين لنشرحه تفصيلًا في الباب الخامس من هذا الكتاب الذي يغطي نشأة الإسلام السياسي الحديث وتطوره.

استقال صدقي من الوزارة على أثر فشل معاهدته وعاد النقراشي رئيسًا للوزارة واستأنف المباحثات مع الإنجليز من جديد، كل ذلك والشارع السياسي يغلي والحركة الوطنية في تصاعد.

في هذه الأثناء وافقت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 29 نوفمبر سنة 1947 على قرار بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية بعد أن أعلنت بريطانيا التي كانت في ذلك الوقت سلطة الانتداب على فلسطين قرارها بإنهاء انتدابها في 14 مايو سنة 1948 وسحب كل جنودها من فلسطين.

ثار الشعب العربي كله وفي مقدمته مصر، وهبت الملايين دفاعًا عن فلسطين ورفضًا لقرار الأمم المتحدة بتقسيمها وطالبت الملايين العربية حكوماتها بإرسال جيوشها إلى فلسطين لسحق مشروع إقامة دولة يهودية في مهده.

وقررت جامعة الدول العربية التي كانت قد أنشئت في أكتوبر سنة 1944، إرسال جيوش سبع دول فيها إلى فسلطين يوم 15 مايو سنة 1948 فور إنسحاب الانتداب البريطاني، وكان أهم جيشين عربيين في الجيوش التي دخلت الحرب هما الجيش المصري والجيش الأردني، وعقدت الدول العربية التي ستخوض الحرب مجلسًا قررت فيه أن تكون القيادة العامة للجيوش العربية تحت لواء المرحوم الملك عبد الله ملك شرق الأردن في ذلك الوقت.

وسنقف هنا عند هذه الفقرة لنعرض قصة هذه الحرب في إطار عرضنا للصراع العربي الإسرائيلي الذي خصصنا له الفصل التالي الرابع من هذا الكتاب، إذ لا يمكن فهم الأوضاع على حقيقتها ما لم توضح خلفية هذا الصراع التاريخي منذ البداية، وأعود هنا إلى موضوع هذا الفصل الثالث الذي يغطي تطوري الفكري ومراحل البحث عن الذات.

كما ذكرت في المقدمة فقد كنت في السنة الثانية الثانوية عندما وقعت مذبحة كوبري عباس في فبراير سنة 1946 والتي كانت البداية الحقيقية للثورة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية، وكنت أحد زعماء طلبة مدرستي الخديوي إسماعيل الثانوية وأحد خطبائها المتطرفين، واستمر إندماجي في الحركة الطلابية الثائرة طول سنة 1947 التي سقط فيها مشروع معاهدة «صدقي - بيفن».

واستمرت الثورة خاصة بعد قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، واستمر نشاطي السياسي المتطرف حتى تم فصلي من جميع المدارس الحكومية المسماة عندئذ الأميرية على النحو الوارد بالمقدمة، ثم عودتي بعد أشهر إلى مدرسة الحلمية الثانوية التي انتهت فيها دراسة شهادة الثقافة العامة سنة 1948 ثم شهادة الثانوية العامة وكانت تسمى شهادة التوجيهية عندئذ، في صيف سنة 1949، والتحقت بكلية الحقوق في خريف سنة 1949 أسير على خطى أبي وجدي في مهنة المحاماة، خلافًا لرغبة والدي عندئذ فقد كان أبي يتمنى أن أكون مهندسًا، بينما كانت أمي تتمنى أن يكون ابنها الأصغر طبيبًا بعد أن أصبح أخي الأكبر ضابطًا بسلاح الفرسان الملكي واشترك في حرب فلسطين فيما بعد.

وازاء إصراري على دخول كلية الحقوق لم يجد والدي بدا من بمجرد بدء دراستي الجامعية في خريف سنة 1949 وجدت نفسي كمركب صغير تتقاذفه عاصفة عاتية من التيارات الفكرية التي كانت تموج في مصر وقتها وتؤثر في الحركة الوطنية وتتأثر بها، كان هناك حزب الوفد ذو الأغلبية الشعبية الكبيرة والذي كان يمثل الطبقة المتوسطة في مصر والذي كانت ركائزه هي استقلال وادي النيل عن الاستعمار البريطاني، والديمقراطية السياسية التي وضع الوفد قواعدها في دستور سنة 1923 الذي كان تتويجًا لثورة 1919 المجيدة، وكنت بحكم نشأتي في هذه البيئة الوفدية منتميًا عاطفيًا لحزب الوفد الذي كان جدي أحد مؤسسيه وكان أبي أحد شباب ثورة سنة 1919 وأحد خطبائها البارزين.

وكان طبيعيًا لذلك أن ألتحق بلجنة الوفد العامة بمجرد إلتحاقي بكلية الحقوق، ولكن صوتًا خفيًا في داخلي كان يقولي أنني تابع فكريًا لأسرتي دون أن يكون لي فضل في اختيار انتمائي الفكري، وكنت قد عبرت سنوات المراهقة الأولى ووصلت إلى سن السابعة عشرة حيث بدأ التمرد الفكري على أفكاري السياسية الموروثة وبدات بداخلي مرحلة البحث عن الذات وكان أمامي بخلاف الوفد تياران رئيسيان فوق الساحة السياسية في الجامعة، تيار في اقصى اليمين وهو الإخوان المسلمين، وتيار في اليسار هو التيار الاشتراكي الذي يتأرجح حتى يصل إلى أقصى اليسار الملحد الذي تمثله الشيوعية.

وكنت بحكم تربيتي العائلية المتدينة ميالًا للإخوان المسلمين ولكن جانبًا من فكري كان ينجذب بقوة نحو اليسار لما تمثله شعاراته البراقة من عدالة اجتماعية وتقارب مع الفقراء يتفق مع مشاعري الدينية، انكببت أول الأمر على قراءة كل ما يقع تحت نظري من كتابات التيارات المختلفة، وكان ضمن ما قرأت ولأول مرة في حياتي المنشورات السرية التي كانت تصدرها التنظيمات الشيوعية بالجامعة وتوزعها سرًا على الطلبة.

ثم حسمت أمري وانضممت إلى جماعة الإخوان المسلمين بشعبة السيدة زينب التي كانت أقرب شعب الإخوان إلى منزلي كنا نلتقي عصرًا حتى المساء مرتين أسبوعيًا، وكان الأخ المسئول عن تثقيفنا بالشعبة حاد الذكاء ناعم الحديث يؤهلنا تدريجًا لتقبل الأساس الأول الذي تقوم عليه الجماعة وهو السمع والطاعة لقادتنا من الإخوان المسلمين، وكان يستغل معرفته الواسعة بالقرأن الكريم مقارنة بمستوانا المعرفي لقنعنا أن طاعة مسئولي الجماعة هي من طاعة الله فهم أولو الأمر الذي تنص الآية الكريمة على طاعتهم إذ تقول: «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم».