رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «11»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب



وفي هذه الأثناء جرت محاولة حذره من التيار الديني لوضع قدمه في باب السياسة مستعينًا ببعض كبار رجال الأزهر، وإذا بشيخ الأزهر عندئذ المرحوم الإمام مصطفى المراغي يخرج سنة 1937 عندما حان وقت إعتلاء فاروق العرش فطلب أن يؤدي الملك يمين الولاء بالجامع الأزهر ويعطي هدية هي سيف جده محمد علي الكبير ولكن صلابة الزعامة لدى مصطفى النحاس وقفت بحسم في وجه هذه المحاولة المشبوهة لضرب الديمقراطية ووضع بذور الحكم الديني.


ووجه النحاس يومها قوله الشهير لشيخ الأزهر بأن أي رجل دين يحاول وضع قدمه في باب السياسة فإن الشعب سيبتر هذا القدم، وهكذا ماتت هذه المحاولة في المهد.


كانت من نتائج عودة الوفد للحكم سنة 1936 أن أصبح أبي سكرتيرًا عامًا لمجلس الشيوخ الوفدي، وظل في هذا المنصب حتى سنة 1949 عندما استقال ليهود لمهنة المحاماة وليصبح بعد ذلك عضوًا في مجلس الشيوخ سنة 1950 الذي ظل به حتى ألغى الانقلاب العسكري سنة 1952 الدستور والبرلمان معًا.


تفتحت عيناي على هذه البيئة المحيطة بي، وكان منصب أبي يشعرني بالزهو والحماية، وكنت شديد التعلق بشخص أبي ودائم الرغبة في الوجود معه لدرجة أنه منذ أوائل الأربعينات وأنا طفل دون العاشرة كنت أصاحب أبي كثيرًا إلى مكتبه بمجلس الشيوخ خاصة خلال دورات الانعقاد وكنت أحضر الكثير من الجلسات جالسًا في شرفة الزوار وسط ابتسامات التهكم أحيانًا من بعض الزوار نحو هذا الطفل السياسي.


وقد كان حضوري الكثير من جلسات مجلس الشيوخ بدأ من سنة 1942 حتى حل المجلس بعد انقلاب سنة 1952 سببًا في الوعي السياسي المبكر جدًا الذي نشأ عندي نتيجة الظروف التي مكنتني من هذا الالتصاق بأبي، كما مكنني من رؤية أحداث ضخمة من تاريخ مصر وقت حدوثها مباشرة، وأذكر من هذه الأحداث الجسام ثلاثة لن أنساها أبدًا.


كان الحدث الأول يوم 24 يناير سنة 1945 والمرحوم أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء عندئذ في مبنى البرلمان ليعلن أمام مجلسية أن مصر في حالة حرب دفاعية ضد ألمانيا حتى تتمكن مصر من حضور مؤتمر إنشاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة فور انتهاء الحرب التي أوشكت على النهاية، وكنت جالسًا في شرفة الزوار بمجلس الشيوخ بينما كان ماهر باشا يدلي ببيانه أمام مجلس النواب وبعد أن انتهى توجه إلى قاعة مجلس الشيوخ للإدلاء بنفس بيان إعلان الحرب.


وفي طريقه وخلال سيره في البهو الفرعوني الذي يربط المجلسين خرج شخص يدعى محمود العيسوي وأطلق عليه ثلاثة رصاصات أردته قتيلًا في الحال، وكان محمود العيسوي عضوًا في الجهاز السري لجماعة الإخوان المسلمين، وكانت هذه الجريمة فاتحة جرائم الاغتيال السياسي للجهاز، أسرعت السلطات على الفور بإغلاق كل مداخل البرلمان بحثًا عن شركاء محتملين للقاتل.


ولما لم تجد له شركاء فتحت الأبواب وسمحت للأعضاء والزوار بالانصراف، وانصرفت الساعة 2 صباحًا وأنا نصف نائم محمولًا من أحد حرس مجلس الشيوخ، وكان الحدث الثاني أوائل مايو سنة 1948 وكان المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا رئيسًا للوزراء حضر للبرلمان ليعلن للمجلس دخول الجيش المصري إلى فلسطين لتأديب العصابات الصهيونية على حد قوله فور إعلان دولة يهودية في فلسطين يوم 15 مايو سنة 1948 فور إعلان انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين كما سنعرض في حينه.


أما الحدث الثالث الذي هزني من الأعماق وهز مصر كلها فكان مساء يوم 8 أكتوبر سنة 1951 وكانت المفاوضات التي جرت بين مصر وبريطانيا على مدى عام ونصف لتعديل معاهدة سنة 1936 وإنهاء وجود بريطانيا العسكري بمصر قد باءت بالفشل، وحضر النحاس باشا رئيس الحكومة عندئذ لقاعة مجلس النواب التي كانت تضم النواب والشيوخ في اجتماع مشترك.


وكان أبي قد حصل لي من صديقه المرحوم لبيب بك عبده على تذكرة تسمح لي بمشاهدة الجلسة من مقاعد الزوار، حضر النحاس باشا ووقف أمام ممثلي الشعب بقامته الشامخة ليعلن الكلمة التي خلدها التاريخ السياسي لمصر قائلًا: «من أجل مصر وقعت معاهدة سنة 1936 ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها».


ولن أنسى ما حييت الانفجار الحماسي انتاب قاعة المجلس بنوابه وشيوخه وزواره، وقف الجميع لمدة عشرة دقائق يصفقون لزعيم الشعب وهو يعلن بدء الكفاح المسلح ضد جنود بريطانيا، وكنت ضمن الجمع المشتعل حماسًا ولن أنسى ما حييت دموع الفرح والفخر التي لم استطع السيطرة عليها، كانت لحظة فخر من أجل مصر لن أنساها ما حييت.


وأنهي هذا الفصل بهذا الحدث الجلل لأعود إلى تسلسل الأحداث بعد عرض الفصل الثالث الذي يغطي تطوري الفكري ومراحل البحث عن الذات ورحلتي من الإيمان الفطري إلى الإلحاد إلى العودة الراسخة للإيمان.


الفصل الثالث: تطوري الفكري منذ اندماجي في السياسة ومراحل البحث عن الذات ورحلة الشك والإيمان


كما أشرت في مقدمة الكتاب فقد كانت سنوات دراستي الثانوية من خريف سنة 1944 حتى حصولي على الثانوية العامة في صيف سنة 1949 سنوات سياسية عاصفة في تاريخ مصر، فقد شهدت هذه الفترة أول جريمة اغتيال سياسي في مصر بمصرع المرحوم أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء على يد أحد أعضاء الجهاز السري لجماعة الإخوان المسلمين في يناير سنة 1945، وقبل نهاية الحرب في مايو باستسلام ألمانيا وشركائها دون قيد أو شرط بعد تدميرها تمامًا وانتحار هتلر.


بدأت الحركة الوطنية بقيادة الطلبة والنقابات العمالية بالمطالبة باستقلال مصر عن بريطانيا وانتهاء الاحتلال العسكري البريطاني في مصر، وبدأت حكومة النقراشي باشا الاتصال بالانجليز للمفاوضة وتعديل معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا بما يحقق المطالب الوطنية المصرية.


ولما انتهت الاتصالات الأولية إلى تسويف بريطاني، قامت في مصر أكبر مظاهرة وطنية في فبراير سنة 1946، وانتهت هذه المظاهرة إلى مذبحة كوبري عباس (كوبري الجيزة الآن) عندما هاجمت قوات البوليس طلبة الجامعة بعد فتح كوبري عباس وحصارهم من الخلف وأوسعتهم ضربًا وتحطيمًا، ومات من مات من الطلبة وأصيب الآلاف.


وهاجت مصر من أقصاها إلى أقصاها واضطر النقراشي للاستقالة وكلف الملك فاروق إسماعيل صدقي باشا بتشكيل الوزارة واستأنف صدقي المفاوضات مع بريطانيا.