رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أتون القدر «7»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب


عندما عاد فؤاد لمصر وأصبح سلطانًا وجد أن كل أمراء الأسرة الهامين يملكون عزبًا وتفاتيش واسعة، أما هو فلم يكن يملك أرضًا زراعية حيث نشأ وقضى كل حياته حتى عودته لمصر بإيطاليا، فثارت غيرة السلطان فؤاد وأراد أن تكون له أملاك زراعية واسعة، فهداه تفكيره وزين له فقهاء السلطة وسيلة وضيعة للوصول إلى هدفه، قام فؤاد بمصادرة جزءًا ضخمًا من أملاك الخديوي عباس وضمها لنفسه، وأصدر فقهاء السلطة فتوى تقر ما فعله فؤاد على أساس أن عباس - الذي عزلته بريطانيا عن العرش - يعتبر خارجًا عن الأمة وبالتالي خارجًا عن الدين وبذلك تجوز مصادرة أملاكه.


وثارت ثائرة الوالدة باشا ثورة عارمة وقررت رفع قضية أمام المحكمة الشرعية في القاهرة لاسترداد أملاك أبنها التي استولى عليها فؤاد، ولم يوجد بين كل المحامين الشرعيين في مصر من يجرؤ على قبول القضية من الوالدة باشا والوقوف ضد السلطان في المحاكم، ولكن محاميًا شرعيًا وحيدًا هو محمد عز العرب قبل أن يكون وكيلًا عن الوالدة باشا ولم يعبأ بكل التهديدات التي وصلته عن طريق زملاء المهنة وبعض رجال السلطة من معارفه، وكانت هذه الشجاعة الفائقة من فرد لا يملك حولًا ولا قوة أو طولًا في مواجهة سلطان البلاد سببًا في انتخاب محمد عز العرب نقيبًا للمحامين الشرعيين دورتين متتاليتين سنة 1919 وسنة 1920 رغم كل تهديدات القصر لزملائه بعدم انتخابه.


وكانت هذه القضية قفزة كبيرة في وضع محمد عز العرب الأدبي في مجتمع ذلك الزمان، كما أغدقت عليه ثروة كبيرة حيث دفعت له الوالدة باشا أتعابًا بلغت أربعة آلاف جنيه وكان مبلغًا هائلًا وقتها اشترى بنصفه قصره الواقع في شارع المبتديان الذي تغير اسمه فيما بعد إلى شارع محمد عز العرب.


أما القضية نفسها فقد رضخ قضاة المحكمة الشرعية لتهديد السلطان وحكموا له بصحة مصادرة أملاك الخديوي عباس، ولم تستلم الوالدة باشا وقررت رفع احتجاج يقدم باليد إلى وزير خارجية بريطانيا دولة الحماية على مصر عندئذ.


وأعد جدي الاحتجاج باللغة العربية حيث أنه كخريج أزهر لم يكن يعرف لغات أجنبية، فقام ولده الأكبر أمين (أبي) بترجمة الاحتجاج وسافر به إلى لندن بعد مروره على اسطنبول واطلاع الخديوي عباس في منفاه عليه لأخذ موافقته.


وقدم أبي الاحتجاج لوزارة الخارجية البريطانية ولكنها طبعًا لم تشأ معاداة سلطان تابع لها لإرضاء خديوي سبق عزله، وانتهت القضية عند هذا الحد في حينها، ولكن والشهادة لله، فعندما أصبح فاروق ابن فؤاد ملكًا على مصر سنة 1937 قام برد الأرض أو جزء كبير منها إلى ابن عمه الذي كان مازال يعيش في منفاه في اسطنبول.



سنوات التكوين من الطفولة حتى الرجولة وأوضاع مصر والعالم المحيط بها وآثرها على مصر وعليّ



وصلت إلى الدنيا مساء 18 أكتوبر سنة 1932 وكنت الطفل السادس لأبويه رزقهما الله بسبعة، خمس بنات وولدين، ماتت الطفلة الثانية وعمرها سبعة أشهر، وماتت الأخت الكبرى في ربيعها السابع والعشرين إثر عملية إجهاض، ومات أخي الأكبر قبل أن يصل إلى سن الستين بقليل سنة 1984 وبقيت اليوم مع شقيقاتي الثلاث الباقيات.


كانت مصر عند ميلادي في حالة غليان سياسي كامل بعد أن ألغى إسماعيل صدقي باشا دستور سنة 1923 الذي حصلت عليه الأمة كنتيجة مباشرة لثورة  1919 الخالدة، ألغاه صدقي واستبداله بدستور كسيح سنة 1930 يسلب الأمة كل حقوقها السياسية ويعيد الملكية المطلقة في شخص الملك فؤاد الجالس على العرش عندئذ في حماية قوات الاحتلال البريطاني.


ولا يمكن أن تكتمل الصورة السياسية والنتائج التي أدت إليها دون أن نعود إلى الوراء عند نهاية الحرب العالمية الأولى في نوفمبر سنة 1918، ونعرض حالة مصر وحالة العالم المحيط بها والمؤثر فيها.


اجتمع سعد زغلول باشا بأصدقائه المقربين جدًا وقتها، وكانوا حفنة قليلة تضم عبد العزيز فهمي باشا ومحمود أبو النصر بك وجورج خياط بك وعبد اللطيف المكباتي بك ومحمد عز العرب بك، وكان الاجتماع يوم 11 نوفمبر سنة 1918 يوم إعلان الهدنة.


وقرر المجتمعون أن يشكلوا وفدًا من ثلاثة برئاسة سعد باشا وعبد العزيز فهمي باشا ومعهما علي شعراوي باشا أحد أقطاب الأعيان الوطنيين عندئذ.


وقرر المجتمعون طلب مقابلة المندوب السامي البريطاني بمصر عندئذ السير ونجت ليطلبوا منه السماح لهم بالسفر لحضور مؤتمر الصلح الذي كان مقررًا عقده بقصر فرساي.


كان لقاء الوفد الثلاثي مع السير ونجت يوم 13 نوفمبر سنة 1918 الذي أعلن بعد ذلك عيدًا رسميًا يسمى عيد الجهاد الوطني وظلت مصر تحتفل به سنويًا حتى ألغاه الأنقلاب العسكري سنة 1952.


قابل السير ونجت الوفد الثلاثي ساخرًا وسأله بأي صفة يتحدث الرجال الثلاثة باسم شعب مصر فأعلنوا أنهم وكلاء عن الأمة وتطاير نبأ اللقاء في كل أنحاء مصر كالنار في الهشيم رغم عدم وجود راديو أو وسائل إعلام واسعة الانتشار وقتها.


وخرجت الآلاف المؤلفة من المصريين لتعلن أنها قد وكلت الرجال الثلاثة للتحدث باسمها والمطالبة باستقلال مصر والسعي لهذا الاستقلال بكل الطرق السلمية وجمعت مئات الألوف من التوكيلات التي تفوض الرجال الثلاثة في هذه المهمة، وهكذا قام حزب الوفد في مطلع سنة 1919 مشتقًا اسمه من اسم الوفد الثلاثي.


واشتعلت الروح الوطنية وخرجت عشرات الألوف في مظاهرات تهتف لسعد وللاستقلال، وحتى تقمع السلطات العسكرية البريطانية هذه الحركة الثورية في مهدها قامت مساء 8 مارس باعتقال سعد وبعض رفاقه ونفيهم إلى جزيرة مالطة وانتشر نبأ اعتقال سعد باشا في ساعات قليلة في كل أنحاء مصر.


وفي صباح التاسع من مارس خرجت مصر كلها في ثورة عارمة استمرت أربع سنوات حتى وضع دستور لمصر سنة 1923 بعد أن اعترفت بريطانيا باستقلال مصر وإلغاء الحماية في 28 فبراير سنة 1922، وأجريت أول انتخابات نيابية كاملة في تاريخ مصر في مطلع سنة 1924 واكتسح الوفد الانتخابات وقام الملك فؤاد بتكليف سعد باشا بتشكيل أول حكومة شعبية في تاريخ مصر.


وهكذا بدأت الفترة المسماة بالحقبة الليبرالية في تاريخ مصر الحديث والتي أفرزت في مصر معظم علمائها وأدبائها وفنانيها وجعلت منها بحث عاصمة الثقافة والحضارة العربية الحديثة.


وليس التأريخ لثورة 1919 هو موضع هذا الكتاب ولكننا نعرض فقط الإطار السياسي والفكري لهذه الفترة.