رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

آتون القدر «6»

أحمد عز العرب
أحمد عز العرب



اتفقت معه صفية على أتعاب أربعة جنيهات دفعت له مقدم جنيهين والباقي جنيهين تدفع عن الفصل في القضية، وفي جلسات المرافعة كانت أقوال الشهود من الطرفين صورة صادقة عن حالة المجتمع المصري وإطار تفكيره تستحق أن يسجلها التاريخ.


أحضر محامي السادات شهود إثبات على عدم الكفاءة بين الزوجين، فكان يسأل الشاهد: هل تعرف السيد السادات؟ فيجيب الشاهد بنعم، فيسأله ابن من هو؟ فيرد الشاهد: «ابن فلان ابن فلان.. ابن فاطمة بنت محمد عليه الصلاة والسلام»، فيسأله المحامي: لماذا تحفظ هذا النسب؟ فيرد الشاهد: «من باب البركة والتقرب من بيت النبوة» ثم يسأله المحامي هل تعرف علي يوسف فيرد الشاهد: «لم أسمع عنه».


وجه المحامي مرافعته للمحكمة قائلًا بالحرف الواحد: «أظن يا فضيلة الرئيس أن عدم الكفاءة بين الزوجين واضح للأعمى شتان بين السيد السادات نقيب الأشراف الذي يعيش كالعلية من القوم الذين يجتمعون للسمر والمفاكهة ولا يحتاج لمهانة العمل لكسب قوته وبين علي يوسف الذي يمتهن مهنة الجرائد الحقيرة المنهي عنها شرعًا لما فيها من غيبة ونميمة».


وحكمت المحكمة طبعًا بالتفريق بين الزوجين غير المتكافئين وهكذا ترى نظرة المجتمع المذهلة عندئذ لمعاييرنا الحالية فالعمل لكسب العيش يعتبر مهانة والصحافة مهنة حقيرة مخالفة للشرع.


انتهت القضية بعد أن رفعت اسم المحامي الشاب محمد عز العرب وشهرته إلى عنان السماء القانونية، فقد ظل اسمه يتردد وسط عمالقة القانون في قضية هزت مصر من أقصاها إلى أقصاها، وكانت هذه القضية هي باب الرزق الواسع الذي فتحه المولى لجدي، وباب الشهرة الذي مكنه سنة 1913 أن يرشح نفسه لعضوية الجمعية التشريعية وهي البرلمان الاستشاري الذي أنشأه الاحتلال البريطاني في وقتها لإضفاء قناع ديمقراطي على الاحتلال وقبل بدء الحملة الانتخابية فوجئ جدي بتليفون من مكتب سعد زغلول باشا الذي كان ناظرًا للمعارف (أي وزير التعليم) وزوج ابنة رئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا يريد زيارة جدي بمكتبه وفوجئ جدي بهذا الشرف الذي لم يكن يتوقعه أو يفهم له وقتها سببًا.


حضر سعد باشا لمنزل جدي وأخطره أنه كان ينوي ترشيح نفسه للجمعية التشريعية عن دائرة محكمة السيدة ولكن لما علم من مأمور القسم أن هناك مرشح آخر هو الشيخ محمد عز العرب قرر سعد باشا عدم ترشح نفسه وحضر ليخطر جدي أنه سيؤيده تقديرًا لمواقفه المشرفة في ساحات المحاكم الشرعية.


وإذ بحدي يقسم لسعد باشا بالطلاق أنه لن يغادر المنزل إلا وهو (أي سعد باشا) المرشح الأوحد بالدائرة، وأن منزل عز العرب سيكون الموطن الانتخابي للباشا بالنسبة للمعركة الانتخابية.


وكانت لحظة ميلاد صداقة العمر بين الرجلين التي استمرت حتى رحيل سعد باشا إلى الرفيق الأعلى سنة 1927 وكان رجال مصر المهتمين بالسياسة المطالبين باستقلال مصر عند نهاية الحرب العالمية الأولى عن بريطانيا وجلاء جيش الاحتلال البريطاني قد بدأوا يتجمعون لهذا الهدف.


وكان أربعة أصدقاء يجتمعون في مطلع سنة 1919 وهم سعد زغلول باشا، وعبد العزيز باشا فهمي، ومحمود بك أبو النصر، ومحمد بك عز العرب، وقد نشرت خلال الثلاثينات هذه المعلومات عندما نشرت صور جنازة جدي الذي توفي في 12 يوليو 1934 مجلة اللطائف المصورة طبقًا للملحق بهذا الكتاب.


 أعود لحياة جدي سنة 1919 بعد أن ترتب على هذه الاجتماعات التفكير الجدي في إنشاء حزب سياسي للمطالبة باستقلال مصر، وإرسال وفد لمؤتمر الصلح الدولي في فرساي.


كان القدر قد رتب لجدي هدية قيمة ماديًا ومعنويًا من خلال ما عرف وقتها بقضية الوالدة باشا، وكانت قضية مثيرة في تفاصيلها وتتضمن صورة حية لبعض جوانب الحياة والأعراف في مصر وقتها ولذلك رأيت أن أروي تفاصيلها باعتبارها جزءًا خاصًا من تاريخ تلك الفترة.


قضية الوالدة باشا:

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 كانت مصر رسميًا ولاية عثمانية تتبع السلطان العثماني خليفة المسلمين الجالس على عرش الخلافة في إسطنبول، ولكن السلطة الحقيقية في مصر كانت بيد جيش الاحتلال البريطاني، وكان السير هنري مكماهون المندوب السامي لبريطانيا في مصر هو الحاكم الفعلي للبلاد بينما كان عرش مصر يجلس عليه الخديوي عباس حلمي الثاني حفيد الخديوي إسماعيل، وكان عباس شديد التبرم من معاملة مكماهون له وحده من سلطاته كخديوي، بل وإلغاءه ما يصدره الخديوي من أوامر عندما يريد، ولكن عباس لم يكن يملك أي حيلة لمواجهة عنجهية مكماهون سوى الاستسلام لها على مضض.


وعندما اندلعت الحرب سنة 1914 بين انجلترا وفرنسا من جانب وألمانيا والنمسا من جانب آخر انضم سلطان تركيا إلى ألمانيا ضد بريطانيا وكان عباس عند وقوع الحرب يقضي أجازة بإسطنبول على ضفاف البوسفور وانتهزت بريطانيا الفرصة وأعلنت الحماية على مصر وإلغاء السيادة العثمانية على مصر.


كما انتهز مكماهون الفرصة وأعلن عزل الخديوي عباس من عرش مصر وإلغاء منصب الخديوي مع استبدال لقب حاكم مصر بلقب السلطان وأجلست بريطانيا على عرش مصر أول سلطان وهو حسين كامل ابن الخديوي إسماعيل وعم عباس.


وفي سنة 1917 مات حسين كامل فاستدعت بريطانيا أخاه الأصغر فؤاد ونصبته سلطانًا على مصر، كان فؤاد أصغر أبناء الخديوي إسماعيل، وعندما عزل الخليفة إسماعيل من عرش مصر سنة 1879 بتحريض من بريطانيا ذهب إلى منفاه في إيطاليا، وصحب معه أسرته وضمنها ولده الأصغر فؤاد الذي كان عمره وقتها ثلاث سنوات.


ونشأ فؤاد وتعلم في إيطاليا والتحق بعد تخرجه بالجيش الإيطالي حتى وصل إلى رتبة صاغ (أي رائد حاليًا) وقت استدعائه إلى مصر ليجلس على عرشها سلطانًا.


كانت والدة الخديوي عباس وجزء من أسرته يعيش في مصر ويشرف على أملاكه الواسعة بها، وكانت ولدته تسمى الوالدة باشا حيث كانت من عادات ذلك العصر الإنعام برتبة الباشوية على بعض أميرات الأسرة المالكة وبرتبة البكوية على بعض سيدات الأسر الأرستقراطية الغنية.