رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

المشروع القومى الذى أهدرناه

عبد الله  السناوي
عبد الله السناوي


فى (٢٦) يوليو (١٩٥٦) ولدت زعامة «جمال عبدالناصر» بميدان المنشية، الذى تعرض فيه قبل عامين (١٩٥٤) لمحاولة اغتيال من جماعة «الإخوان المسلمين».
ألهمت صرخته من على منبر الأزهر الشريف: «الله أكبر.. سنقاتل ولن نستسلم أبدا»، حركات التحرير فى العالم الثالث.
لم تكن مصادفة أن مصر اكتسبت قيادتها للعالم العربى والقارة الإفريقية، وتقدمت لقيادة حركة عدم الانحياز بعد ملحمة الصمود فى حرب السويس.
لا توجد أدوار بلا أثمان وتكاليف ومتطلبات، وأى زعم آخر تجديف فى الوهم.
رغم آلاف الوثائق والشهادات والكتب التى نشرت عن حرب السويس فإن هناك من يطلب نزع أى قيمة عن التضحيات التى بذلت حتى يكون استقلال القرار الوطنى مستحقا.
جرى بناء السد العالى أكبر مشروع هندسى فى العالم بالقرن العشرين، وبنت «يوليو» بقدر ما استطاعت مصانع ومدارس ومستشفيات وعمرت الريف ونهضت بالطبقة الوسطى، انحازت إلى قوى الإنتاج والطبقات الأكثر حرمانا.
المشروعات الكبرى تقاس بنتائجها السياسية والاجتماعية كما أرقام عوائدها الاقتصادية.
هناك ما ينتقد فى التجربة الاجتماعية والاقتصادية لثورة «يوليو»، فلا تجارب إنسانية تستعصى على الأخطاء.
كل نقد مشروع وطبيعى، طالما استند على معلومات مدققة وقراءة فى الأرقام قبل إصدار الأحكام باجتهاد، غير أن تجربتها لا تضارعها أية تجربة مصرية أخرى من حيث التزامها قضية العدالة الاجتماعية وحجم الحراك الاجتماعى الذى أحدثته.
لم يكن تأميم القناة سوى خطوة فى مشروع امتد إلى كل مناحى تحسين جودة الحياة، وإشاعة العدل الاجتماعى.
لم يكن هناك تخطيط اقتصادى مسبق لما بعد تأميم قناة السويس.
السياسات أخذت زخمها من قوة الفعل وحجم التطلع إلى تحسين أحوال المواطنين، وأخذت تتبلور من خطوة إلى أخرى حتى اكتسبت «يوليو» مشروعها.
لخص السيناريست «محفوظ عبدالرحمن» على لسان زعيم «يوليو» فى الشريط السينمائى «ناصر ٥٦» معركة التأميم على أنها مسألة كرامة للمصريين العاديين، الذين كتب عليهم أن يخسروا إذا لعبوا مع ابن العمدة.. وأن يضربوا إذا دخلوا فى مشادات.. حتى إذا فكروا أن يمشوا بجوار الحائط لتجنب المشكلات لن يتركوا فى حالهم.
فى لحظة مواجهة قرر واحد ممن أطلق عليهم كاتب السيناريو «أولاد عويس» أن يأخذ بثأر من ماتوا أثناء حفر القناة، وأن يرفع رأسه دون أن يكون مضطرا أن يمشى بجوار الحائط.
وفى الحرب اكتشفت مصر نفسها من جديد وبدت أمام «الباب المفتوح» ـ وفق رواية الدكتورة «لطيفة الزيات» عن تلك الفترة والروح التى بثتها.
جرت أحداث الرواية بين عامى (١٩٤٦) حيث ولد جيل جديد صاغت تجربته حقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية و(١٩٥٦) حيث ألهمت حرب السويس روحا استقلالية وتحررية ونظرة مختلفة لقضية المرأة، كما لخصتها «ليلى» بطلة النص الروائى، التى تمردت على قيودها ونظرة المجتمع إلى دور المرأة، واكتسبت حقها فى الحرية بالانضمام إلى الفدائيين فى بورسعيد إسعافا لجرحى وتضميدا لآلام.
«أردت أن أقول إن طريق الخلاص هو بالارتباط بقضايا أكبر يجد الإنسان نفسه فيها» ـ كما قالت المؤلفة.
فى تجربة الحرب تأكدت حقيقة أساسية أن من يقاتلون ويدفعون فواتير الدم هم أصحاب الحق الأصيل فى البلد، فى الصحة والتعليم وحق العمل والترقى بالكفاءة دون تمييز بين امرأة ورجل.
ما معنى أن يكون هناك مشروع قومى؟
هناك من يتصوره محض مشروع اقتصادى، أو زراعى، أو صناعى كبير، تحشد من حوله الطاقات والقوى وتكتب وتلحن من أجله الأغانى ــ فى طلب نفس الأثر الذى أحدثه مشروع «السد العالى» دون الخوض فى معارك سياسية أو عسكرية، كالتى جرت بسببه ومن حوله.
لم يكن السد العالى سوى معركة فى حرب حقيقية حول المنطقة ــ بند فى مشروع، وليس كل المشروع!
كانت معركة شاملة دخل الفن طرفا فيها.
معركة لم تصنعها «الأغانى»، بل هى التى صنعت أغانيها.
تصدر «صلاح جاهين» مشهد الأحلام الكبرى.
بقدر ما أخلص لاعتقاده أثرت أناشيده جيلا بعد آخر، رغم ما ألم به من اكتئاب حاد بعد هزيمة «يونيو».
بدت «جوابات حراجى القط العامل فى السد العالى وزوجته فاطنة أحمد عبدالغفار»، التى أبدعها باللهجة الصعيدية «عبدالرحمن الأبنودى»، نظرة عميقة فى فلسفة الحياة والغربة والتحول داخل مجتمع مهمش وفقير إلى عالم جديد.
التحول فى أساليب الإنتاج من «صاحب فأس» إلى «أسطى فى السد العالى» ألهم الشعر وأضفى عليه إلهامه.
أى مشروع يكتسب قيمته من قدرته على صياغة إرادة التغيير فى مجتمعه بما يتسق مع احتياجاته وفق رؤية للمكان والزمان والإنسان.
أسس السد العالى لعصر التصنيع الثقيل وتمصير الاقتصاد المصرى وبناء قطاع عام قوى وقادر على التنمية والوفاء بمتطلبات الانتقال إلى عصر جديد أكثر عدلا اجتماعيا.
ارتبط بتوليد الكهرباء إلى معدلات غير مسبوقة بحسابات زمانها وزيادة رقعة الأراضى الزراعية مع اتساع الخدمات الصحية والتعليمية.
اكتسب السد العالى رمزيته من سياق مشروعه.
أكثر ما يسىء لأى مشروع من هذا الحجم النظر إليه كنوع من «التوحيد» الإجبارى وراء فكر واحد.. وزعيم واحد.
المشروع القومى هو مجموعة «القيم الأساسية»، التى تحكم الحركة إلى المستقبل وتمثل المشترك الأعظم بين جميع القوى والاتجاهات السياسية.
المشروع القومى لم يخترعه «عبدالناصر»، فهو لم يخترع الوحدة العربية ولا خلق من فراغ أحلامها وتطلعاتها، وهو لم يخترع مطلب الاستقلال الوطنى والاستعداد للتضحية فى سبيلها، لم يؤلف دور مصر فى المنطقة؛ حيث حقائق الجغرافيا والتاريخ تدعو إليه، ولم يكتشف مقتضيات العدل الاجتماعى.
الأفكار الرئيسية لـ«جمال عبدالناصر» كلها ـ تقريبا ـ كانت موجودة فى الجو السياسى والثقافى العام قبل ثورة يوليو.
كأى مشروع بهذا الحجم فهو إرث وطنى وقومى وإنسانى عام بكل حمولاته من مغانم ومغارم.
مواريث السياسة ليست كلها مغانم، فالمغارم مما يورث أيضا.

نقلًا عن "الشروق"