رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

عن الأدب العربى المعاصر وهموم المجتمع والسياسة.. رسالة تقدير

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي


انتهيت خلال الأيام الماضية من قراءة مجموعة من الروايات الصادرة حديثا، هى «حرب الكلب الثانية» لإبراهيم نصر الله و«الغرق حكايات القهر والونس» لحمور زيادة و«هنا الوردة» لأمجد ناصر و«حصن التراب حكاية عائلة موريسكية» لأحمد عبداللطيف و«الحالة الحرجة للمدعو ك» لعزيز محمد و«آخر الأراضى» لأنطوان الدويهى و«شغف» لرشا عدلى.
أحببت قراءة كل واحدة من هذه الروايات، وأفدت كثيرا روحا وعقلا من تنوع الأساليب الأدبية الموظفة بها. استمتعت بتعدد مسارح أحداث الروايات بين حكايات القرون الوسطى كما فى «حصن التراب» التى تتناول تنصير وتعذيب وتهجير المسلمين من إسبانيا وحكايات الزمن الحديث التى تقدم «شغف» نموذجا لها يتناول حياة فتاة مصرية فى نهاية القرن الثامن عشر تتعقب أثرها أستاذة جامعية فى القرن الحادى والعشرين، بين واقعية «الحالة الحرجة للمدعو ك» وهى تسرد يوميات مريض بسرطان الدم وسحرية «حرب الكلب الثانية» التى تذكر القارئ تارة بأعمال جورج أورويل (١٩٨٤ ومزرعة الحيوان) وتارة بأفلام ومسلسلات الخيال العلمى (كمسلسل المرايا السوداء)، بين الإغراق البديع فى سياق محلى وحيد تربطه «الغرق» بقرية سودانية (حجر نارتى) وبين الترحال عبر بلدان ومدن حقيقية كما فى «آخر الأراضى» (من لبنان إلى فرنسا ومن فنزويلا إلى كندا) أو مشفرة كما فى «هنا الوردة» التى تداعب خيال القراء بإشارات متكررة لفك الشفرة (وإدراك أن البلدان والمدن المشفرة إنما ترمز للمشرق العربى وأحواله وأن المسرح الرئيسى للأحداث – الحامية ــ هو بلد تتماهى تفاصيله حينا مع الأردن وأحيانا أخرى مع استبداد الماضى فى العراق والاستبداد الممتد فى سوريا).
***
باستثناء روايتين، تحمل بقية الروايات هما مجتمعيا وسياسيا واضحا. فقط فى «آخر الأراضى» لأنطوان الدويهى و«شغف» لرشا عدلى يغيب الهم المجتمعى والسياسى وتحل تمازجات من المشاعر والأفكار والأحلام الشخصية محله. فالدويهى يتحرك بين أماكن مختلفة ساردا بحث بطله عن امرأة أحبها واختفت، ويجرى على لسانه (لسان البطل وحده) تفاصيل لحظات فراق سابقة (موت وارتحال) مر بها أو مرت به ويزج به (بالبطل وحده) إلى خانات التأمل فى المعانى الكلية للموت والنهايات التعسفية التى يضعها للحياة وللحب ومعانى المرض وتقدم العمر وما يحدثانه بالأجساد التى يقضى على رونقها والمشاعر التى تواجه تحدى التلف والانقلاب من نقيض إلى نقيض، وبين أماكن اللوعة ومرارات الفراق يندفع البطل إلى التفكير (هو وحده من يفكر) فى فعل الكتابة كفعل تحرير للذات الكاتبة من عذابات سنوات ولت. أما «شغف»، فلا تجعل من بطلتها المزدوجة، فتاة نهاية القرن الثامن عشر وأستاذة الجامعة فى بدايات القرن الحادى والعشرين، المفكرة والمتأملة والمتحدثة الوحيدة. تأتى رشا عدلى بأصوات كثيرة تحيط بزينب، ابنة الشيخ الأزهرى التى يقع فى حبها نابليون بونابرت وأحد رسامى الحملة الفرنسية (١٧٩٨ ــ ١٨٠١)، مثلما تتواتر أصوات لشخصيات متنافرة حول ياسمين، الأستاذة الجامعية المتخصصة فى الترميم التى تبحث عن هوية الرسام الذى أحب زينب وخلد وجهها فى لوحة قبل أن يصرعه الطاعون وتحاول فى الوقت نفسه التثبت من حقيقة حبها هى لرجل خلبته حياة الدراويش ورقصاتهم. وعلى الرغم من أن «شغف» تحوى بعض الإشارات إلى الصراعات المجتمعية والسياسية التى شهدتها مصر إبان الحملة الفرنسية وتتناول من خلال زينب وضعية النساء والموت الذى كان عقاب من تشز منهن عن العادات والتقاليد (القتل هو نهاية زينب)، إلا أنها فى المجمل إشارات محدودة المضمون وبالغة التعميم شأنها فى ذلك شأن تعامل الكاتبة مع ما يحيط بياسمين من ظروف فى مصر ما بعد ٢٠١١.
***
أما الروايات الأخرى، فيجتاحها الهم المجتمعى والسياسى. تعود بنا «حصن التراب» إلى مساحات زمنية تقع بين القرن الخامس عشر والقرن السابع عشر، وتسرد قصص مسلمى إسبانيا كاشفة مآسى تعقبهم واضطهادهم وإجبارهم إما على التخلى عن دينهم والانقلاب على تعاليمه أو التخلى عن وطنهم الذى لا يعرفون غيره، ومن السطور يطل أحمد عبداللطيف مؤلف العمل محملا بهموم عصرنا الراهن الذى ترتفع به رايات التعصب والتطرف والطائفية واستغلال الدين لأغراض السلطة ولغسل أدمغة البسطاء لكى تستبدل رفض الآخر بالتسامح. أما «الغرق»، ومسرحها المكانى والزمنى هو سودان نهاية ستينيات القرن العشرين، فتجعل من القرية التى يعيش بها أبطال الرواية نموذجا مصغرا للسودان بحقائق القهر والاضطهاد التى يفرضها الرجال على النساء، وذوو الأصول العربية على ذوى الأصول الإفريقية الذين صاروا رقيقا فى بلادهم، والأغنياء وميسورو الحال على الفقراء. وفى القرية استوطنت أيضا بقايا التكالب على السودان الغنى بين المستعمر البريطانى والسلطات المصرية والحركة الوطنية التى نادت بالاستقلال وحفريات التنافس بين النخب التقليدية (الختمية والمهدية) والنخب الإدارية الحديثة (الأفندية)، وإليها تصل أيضا ارتدادات حياة سياسية غير مستقرة تتواتر بها الانقلابات العسكرية وتسلب بها حرية السياسيين المدنيين إذا ما عارضوا توجهات الحكومات العسكرية وتلك تارة تبدو محافظة وأخرى تقدمية وثالثة تدعى تديين السياسة وأسلمة الحياة العامة.
تقدم لنا «هنا الوردة»، من جهة، تنويعات على الصراع بين الحكام المستبدين وبين حركات معارضة تروج لاستبداد مضاد إن كان باسم التقدم والعدالة والمساواة (تشفير من قبل الكاتب للأفكار الشيوعية والاشتراكية) أو باسم الدين (أى أيديولوجيات حركات الإسلام السياسى) أو باسم القبلية (تمرد المناطق المختلفة على جبروت السلطة المركزية فى العاصمة). من جهة أخرى، تظهر الرواية مأساة انتشار العنف فى المشرق العربى الذى لا يتورع به الحكام عن إعدام معارضيهم ولا يبحث به المعارضون عن الوثوب إلى الحكم والسيطرة على أمور السياسة إلا من خلال محاولات متكررة لاغتيال الحكام وفى التحليل الأخير يسرى العنف كما تسرى أنهار الظلم والدمار والدماء فى جميع أوصال المجتمعات التى تنفجر بها الحروب الأهلية والصراعات المسلحة. عبر تشفير أسماء البلدان والمدن واستدعاء حكايات التأسيس، يصيغ صاحب «هنا الوردة» أمجد ناصر نقدا بديعا للبناء الهش للدولة الوطنية فى المشرق العربى التى رسمت إرادة المستعمرين ومعها نتائج اقتتال النخب التقليدية والحديثة أشكال وخطوط حدودها فحابت من حابت وهمشت من همشت فى غطرسة تجاهلت حقائق التاريخ (التركيبة القبلية) وظروف المكان (الصحراء). فى المقابل، تمد «الحالة الحرجة للمدعو ك» القراء بمعين نقد رصين لأوضاع مجتمعية مختلة ومشوهة وتستند فى ذلك إلى قيم إنسانية حديثة كالفردية والخصوصية والحرية والتسامح مع الآخر. المسرح الكبير لأحداث رواية عزيز محمد هو مكان ما فى بلد عربى غنى بالثروة النفطية (منطقته الشرقية هى الغنية بالنفط تحديدا) وتصبغ القبائل بتقاليدها وأعرافها حياته (مكان ما فى الخليج هو السعودية على الأرجح)، والمسرح الصغير هو البطل الشاب الذى يسقط مصابا بمرض سرطان الدم وفى دورات سقوطه ومحاولاته لاستعادة الأمل فى حياة تستحق التشبث بها يواجه تدخلات الأهل المستمرة فى حياته الشخصية وولعهم بأمور الوجاهة الاجتماعية حتى عندما يكون ثمنها هو انهيار حالته الصحية ويواجه أيضا الفراغ القيمى والأخلاقى الذى صار مطبقا على مجتمعه بسبب الجشع المتمادى لأصحاب الأموال والسلطان وتمكن النزعة الاستهلاكية من سكانه واغترابهم عن أصولهم البسيطة التى جعلت من جدودهم فى الماضى بناة لبلدان ومدن ليس لاختلالاتها وتشوهاتها المعاصرة سوى أن تأتى عليها كما تأتى النار على بالات التبن (التشبيهات الأخيرة لى).
***
أما «حرب الكلب الثانية» لإبراهيم نصر الله، وهى الرواية الفائزة بجائزة البوكر ٢٠١٨، فتوظف عوالم سحرية تتداخل بها حكايات مستوحاة من الخيال العلمى وقادم السنوات والعقود الذى ستفتك به التكنولوجيا بكل الحدود والقيود مع مرويات عبث القرن الحادى والعشرين والقرن العشرين والقرون الأسبق والتى لم يتعلم بها الإنسان أن يكف عن الاستبداد والقتل والظلم والجشع. والحصيلة الأدبية هى مكان يتحول فيه الاستبداد المستند إلى السطوة الأمنية ومراكمة الأموال إلى جوهره الوحيد، وتتطابق فيه أشكال وخصال البشر بحيث لا يعد ممكنا أن تميز الزوجة زوجها والابنة أمها ويتشابه جنرال المؤسسة الأمنية مع الطبيب البشرى فى السلوكيات، وتشعل فيه الحروب وأعمال القتل والعنف لكى تحدث عمليات «الانتقاء الطبيعى» مفاعيلها فيبقى القوى ويتلاشى وجود الضعفاء، وتزكم رائحته البشعة الأنوف. مجتمعيا وسياسيا، يرفع إبراهيم نصر الله لعرب القرن الحادى والعشرين مرآة النهايات الحتمية للاستبداد الذى حتما سينزع عنا جميعا إنسانيتنا ويقضى على الأخضر واليابس جاعلا من مجتمعاتنا بقايا نفايات آدمية.
هذه دعوة لقراءة الأدب العربى المعاصر، فعوالمه ملهمة ولغته جميلة والنقد المجتمعى والسياسى الذى يتسع له تضيق به الصحف وتترصده لوائح الجزاءات الإعلامية.
أستاذ علوم سياسية وباحث فى جامعة ستانفورد.

نقلًا عن "الشروق"