رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

الحاجز الزجاجى

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي


نظر إليها من ورائه. بكت هذه المرة، قالت إنها تريد أن تبقى معه ولا ترغب فى الرحيل. لم تسعفه الحيل المعتادة لكى يتماسك ويبتسم ويخرج من شفتيه جمل التأكيد على أن لقاءهما القادم قريب للغاية.

انسالت دموعه حين طلبت منه أن يرسم لهما قلبا واحدا وأن يضع صورتيهما داخله لكيلا يتفرقا أبدا.

ثم كان أن تبدلت هوياتهما، وانقلبت مواقعهما رأسا على عقب. أمسكت وجهه بيديها الصغيرتين، وقبلته على وجنتيه المبللتين. صارت هى فى لحظة أمه التى افتقد حنانها منذ غيّبها الموت، وصار هو الابن الجزع الباحث دوما عن دفء حضنها ونعومة لمساتها.
تماسكت قبل أن يتماسك، فتوقفت عن البكاء وكأنها أشفقت عليه. نظرت فى عينيه سائلة عن موعد اللقاء القادم، وقد بدت كأم تلقن ابنها ما يتعين عليه قوله فى الصعب من المواقف وغير المختبر من أحوال الدنيا.

التقط أول الخيط الذى ألقته إليه، وتلعثم فى محفوظات الوداع، غير أن عبارة «خلال أسابيع معدودات» خرجت واضحة. ابتسمت له حين توقع الحزن وخشى تجدد البكاء، وعادت إلى إمساك وجهه بيديها. وأبلغته بحزم ناظرة فى عينيه أنها ستجعل من الأسابيع المعدودة أسبوعا واحدا بمساعدة روزنامتها السحرية التى تطيل من أيام اللقاء وتطوى سريعا ما يسبقه وما يليه.

لوهلة توقف مفعول الروزنامة السحرية، فأشارت عقارب الساعة إلى دخول بات ضروريا إلى القاعة التى يترك عند حاجزها الزجاجى الحبيب حبيبه.

إلا أن لحظة تبدل هوياتهما وانقلاب مواقعهما تواصلت غير عابئة لا بحدود الزمن ولا تفاصيل المكان. ضمته هى إليها بقوة، فى مشهد استوقف عنفوانه المسافرين والمودعين الآخرين، وفاضت براءته جمالا على كل ما أحاط بهما من بشر وأشياء.

تجاوزت الحاجز اللعين بسرعة مشيرة إليه بانتظارها عنده، ثم ركضت باتجاهه ما إن انتهت من إجراءات التفتيش الأمنى التى رتبت كثرة مجيئها وذهابها اعتيادها تفاصيلها على الرغم من صغر سنوات عمرها. ابتسمت من خلف الحاجز الزجاجى ابتسامة ناصعة ومطمئنة، وكأنها مجددا تشفق عليه من وطأة الوداع وتريد أن تلقنه ما يتعين عليه أن يفعل.

أمرت، فأطاع وابتسم وسكن قلبه مطمئنا لطمأنينتها. لم تتوقف هنا، بل انحنت لتخرج أطراف أصابعها من تحت الحاجز لتلامس أطراف أصابعه وتودعه بلمسات طهرت رقتها قلبه من مشاعر الحزن والخوف والندم.

لم تتوقف هنا، بل أخرجت من تحت الحاجز قلادة عنقها بعد أن خلعتها وقبلتها وطلبت منه أن يضعها على وجنتيه لكليلا يبكى أبدا حتى تعود إليه. ارتسمت على وجهه ملامح الرضا، فضحكت هى فى براءة، تمنى ألا تضيع منها أبدا.

استدارت مبتعدة، شقت طريقها عائدة إلى حيث اصطف المسافرون لدخول الطائرة، رفعت يدها فى الهواء وأومأت بها قبلة أخيرة. فعل المثل، فبدا له وكأن من بين المسافرين المصطفين من كرر ذات الفعل باتجاهه. انهالت عليه القبلات الهوائية، فقد كامل القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال أو بين حقائق الزمان والمكان المحددين وبين مفعول الرزنامة السحرية ولمسات أطراف الأصابع. شعر بها وبكل من معها فى القاعة وكأنهم يحتضنونه مهدئين من جزعه، ومانعين له من أن ينقلب إلى نقمة على الدنيا وغدرها ما أن يغيب وجه ابنته وحائلين بينه وبين طرد الرضا الذى سكن روحه.
وفى الجوار صنم فى زى أسود يسمع ويرى ويتابع، ولكنه لا يشعر.

نقلًا عن "الشروق"