رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

قبل سقوطها أمام مترو ساقية مكي بيوم واحد.. "خلاص دا أخر يوم ليا في التعب والشغل"

مدخل شقتي الضحية
مدخل شقتي الضحية ووالديها


شارع أحمد سليم، بمنطقة ساقية مكي، كعادته اليومية، يملاؤه الزحام، فبدايته سوق كبير، يعلو به صوا المارة، نظرا لطبيعته، وعلى العكس يتوسط الشارع مساكن الأهالي الهادية، من بينهم عقار رقم 5، الذي كان يحوي منذ يومين، فتاة في عمر ال 32، وهي تنظر لأطفالها ال 4 بين الحين والآخر، وهي تحلم لهم بمستقبل أفضل، وفي عصر يوم الجمعة، هرولت إحدى السيدات المسنة من ذات العقار، وهي تصرخ، "بنتي شيماء ماتت"، لم يصدق الجيران، ما سمعوا لأنهم شاهدوا ابنتها تخرج صباح ذات اليوم كعادتها للعمل، ولكنهم أسرعوا خلفها ليتحققوا من الأمر.


هكذا روت ابنة عم المجني عليها للنبأ ماحدث بعد علمهم بموت شيماء ذلك اليوم، وتكمل: "جوز أختها شغال في الموقف، ومانعرفش مين كلمه من تليفون شيماء وقاله أخت مراتك تعبت شوية في المترو"، وفور وصوله لمحطة مترو ساقية مكي، علم بحقيقة ما جرى لها، قام بالاتصال بوالدتها فهو يعلم بوجودها بشقتها، "جريت ووراها الجيران وهي بتصرخ على بنتها ومش مصدقة".


وبعد تنهيدة حزن على ابنة عمها وما لحق بها، بكت حين تذكرت ذكريات جمعتها بها، وعلى أيام جيراتهم لبعضهم البعض طوال السنوات الماضية، وحينما حاولت توضيح كيف كانت تسعى المرحومة لتربية أبنائها الأربعة "حبيبة 10 سنين، في الصف الخامس الابتدائي، تقى 8 سنين، في الصف الثاني الابتدائي، محمد 5 سنين، شروق 4 سنين، كلاهما في الروضة"، بعد طلاقها من زرجها.



وتتابع: "شيماء اتجوزت من 13 سنة، من جارهم رمضان، سائق على سيارة نقل، في شقة بالإيجار من نفس الشارع دا اللي اتربينا فيه كلنا، كانوا عايشين فيها زي أي أسرة عادية، مشاكلها مع جوزها إنه ما كانش بيشتغل، والفلوس قليلة، والعيال بتكبر، والمشاكل زادت بينهم"، قرر زوجها يدخل جمعيات مع جيرانه، وعندما زادت ديون الجمعية عليهم، ولم يستطع سدادها ترك لها الشقة، "وماحدش عرفله طريق، من سنة ونص باعتلها ورقة طلاقها، واختفى على كدة".


والتقطت أطراف الحديث، زوجة الأخ الأكبر للمرحومة قائلة: "ربنا يرحمها، كانت بتشتغل طول اليوم وترجع تعبانة، وما تلحقش ترتاح جمب عيالها، وفي الآخر تسدد بالمرتب كله ديون جوزها"، خوفا منها على مصير أولادها مع الدائنين، عند المطالبة بأموالهم، كانت دائما تقول لوالدتها "نفسي أسدد كل الديون اللي علينا دي، وأعرف أجيب للعيال كل اللي نفسهم فيه من المرتب، وأعوضهم عن كل اتحرموا منها"، لكنها لم تستطع الاستمرار والتحمل بين كل تلك الضغوطات العصيبة التي كانت على عاتقها.



وتكمل: "أم المرحومة مستأجرة محل صغير، في الطابق الأرضي، فيه "توك للشعر، وكوبايات، وأدوات بلاستيكية"، كان هو مصدر الرزق لهم، ليستطيعوا به الإنفاق على مصاريف الأطفال، جدهم "الحاج حمدان" بيشتغل قهوجي، ويساعد بالتعاون مع زوجته في مصاريف أحفاده"، وكانت تعمل شيماء في إحدى محلات الخياطة بالمنيب، ولكن كان راتبها بالكامل يذهب لتسديد الديون التي على عاتقها، "جوزي على باب الله برضو ومعانا عيال، عايزين نربيهم، وياريت كان فيه زيادة نساعدهم بيها، بس اللي جاي على كد اللي رايح".


وتتابع: "وأخو جوزي كمان متجوز وعنده أولاد وبيت ومسئولية، وأختها متجوزة ومشغولة بعيالها، وهي بس اللي كانت عايشة مع والدتها، في الشقة المجاورة لشقة أبوها، في الدور الرابع، بعد انفصالها عن أبو عيالها، واتعرض عليها الجواز ورفضت، وقررت تعيش لعيالها، وتسد ديونهم، في ناس بيقولوا إنها رجعت يوم الحادثة تعبانة من إرهاق الشغل، فداخت ووقعت قدام المترو، شيماء ما انتحرتش، شيماء روحها في ولادها، وعايشة عشانهم".



وانتقلت النبأ لمكان الشقة التي كانت تسكن بها شيماء مع أطفالها، بالدور الرابع والأخير من العقار رقم 5، وكانت بداخلها خالة شيماء، التي عبرت بصوت متحشرج من كثرة البكاء، عن مدى معاناة المرحومة قبل طلاقها، وطيلة سنين زواجها من أبو عيالها، الذي لم يكن يعمل، ويجعلها تقوم بالإنفاق علي بيته، من مصروف أبيها الشهري الذي كان يتركه لها، لمعرفته بضيق الحالة المادية التي تعيشها ابنته معه، برغم أن الحالة المادية لوالدها غير يسيرة أيضا، فهو "راجا على كد حاله"، وبعد طلاق ابنته، عادت لتعيش بالإيجار كوالديها في الشقة لمجاورة لهم، والتي تبلغ مساحتها 40 متر، وتكوينها الداخلي، هو أوضتين صغيرتين، وطرقة، وحمام، ولا يوجد مطبخ، بعدما طلبت منها والدتها ذلك، وكانت راضية بعيشتها، وتتمنى سداد ديونهم، من أجل حياة أفضل لأطفالها الأربعة.


وتحكي إحدى جارات الضحية، أنها رأتها في اليوم الذي سبق يوم الواقعة في شقتها، وسمعتها وهي تقول "دا أخر يوم ليا في الشغل، خلاص مش هتعب تاني"، وكانت تنظر لأطفالها بحنو نابع من طبيعتها الأمومية الحنونة، والمتألمة في نفس الوقت على كل لحظة غياب عن أطفالها وهي تعمل، فلم يعلم منا أحد أنها تتحسر عليهم، أو أنها ستغيب فعليا عن الحياة وتتركهم خلفها يعانوا الفقد والحرمان من كل شيء، حتى من عطفها عليهم طيلة العمر، هي كانت تلقي بنفسها في كل عمل يدخر لها المال، حتى تستطيع توفير حصيلة الديون الذي تركه زوجها لها قبل اختفائه، والتي كانت تدفع له 2000 جنيه شهريا تقريبا، فالشابة الثلاثينية من عمرها، بدا عليها الكبر، من حجم المسئولية التي كانت على عاتقها، ومن حملها "للهم" وحدها دون شريك يعينها على التحمل ويتقاسمه معها.



وبصوت باكي، يملاؤه الوجع والحزن على الفقيدة روت أم الضحية مدى وجعها على ابنتها، وعلى أحفادها الأربعة، الذين أصبحوا الآن دون أم أو أب يحنو عليهم، ويرى متطلباتهم، فهي لا تضمن عمرها، ولا عمر جدهم، فهما أطال الله في أعمارهم، فلن يعيشوا أكثر مما عاشوا، وبكت أكثر وأكثر على المصير المجهول الذي ينتظر 4 أطفال لا ذنب لهم في الحياة، ولا شقة لهم تأويهم في الدنيا، فالإيجار لا يدوم لصاحبه، وهم لا يمتلكوا ما يتركوه لهم لتأمين مستقبلهم، ثم تزداد بكاء حتى يعجز صوتها عن الخروج بكلمات واضحة.



ويقول صاحب البيت الذي كانت تسكن فيه شيماء مع ابنائها، وكذلك والديها: "الست ربنا يرحمها ماحدش شاف منها ولا من أهلها أي حاجة وحشة، طول عمرهم ساكنين ومأجرين مني المحل والشقتين اللي عايشين فيهم، إيجار كل شقة 700 جنيه، والمحل 400، وكانوا في أغلب الشهور ملتزمين بالسداد، وطول عمرهم محترمين مع جيرانهم، وفي معاملاتهم الاجتماعية، أولادها بشوفهم مع ستهم في المحل، وآية في الأدب والاحترام، ربنا يتولاهم برحمته بعد موت أمهم وغياب أبوهم".



تعود البداية إلى تلقي إدارة شرطة النقل والمواصلات إخطارا بانتحار سيدة في أثناء قدوم قطار رقم 308 بالخط الثاني، بمحطة مترو ساقية مكي، باتجاه شبرا الخيمة، عندما فوجيء قائد القطار بإلقاء فتاة في العقد الثالث من عمرها بنفسها أمام القطار، مما تسبب فى بتر ذراعها ومصرعها على الفور، بعد أن كشفت كاميرات المراقبة تفاصيل الوقعة بوضوح.