رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

حكايات مثيرة من داخل «عنبر السيدات» بمستشفى العباسية

مستشفى الصحة النفسية
مستشفى الصحة النفسية


مستشفى العباسية لـ«الصحة النفسية».. من المؤكد أن المرور أمامه سيكون سببًا في شعورك بـ«قشعريرة» وخوف شديدين يدفعانك لتسريع خطواتك، و«الهروب» من أمام هذا المبنى الذي كانت الأعمال الدرامية سببًا في نقل صورة «مشوهة» وخاطئة عنه للمواطنين؛ فالغالبية تعتقد أنه مكان غامض يضم بين جنباته أشخاصًا يمثلون خطرًا على المجتمع، والحقيقة أن المريض النفسي «ليس شخصًا مجنونًا»؛ ولكنه مريض من الممكن أن يصبح «سليمًا معافى» عندما تتوفر الظروف والأسباب.


يقع المستشفى على مساحة «68» فدانًا تقريبا، وأسس عام 1883، وكان قصرًا لأحد الأمراء، واندلع فيه حريق كبير التهمه، ولم ينج من ذلك الحريق سوى مبنى مكون من طابقين تم طلاؤه باللون الأصفر، وتحول بعد ذلك إلى أول مستشفى عقلي بالقاهرة عام 1883م، ليطلق عليه اسم «السرايا الصفراء».


على مقربة من باب دخول مرضى الإدمان، وقف أخ بجانب شقيقه يحذره من عدم الخضوع للعلاج؛ لأنه أصبح «فرجة» لأهل الحي، وبدون أي مقدمات انهال عليه بالسباب، وحاول أن يعتدي عليه بالضرب، ليكتشف الجميع في النهاية أنه هو المريض، وقد أحضره أخوه الآخر لتلقي العلاج.


شاب آخر، يدخل بصحبة أهله وأصدقائه، تتقدمهم سيدة عجوز «سبعينية» يلتفون حول الشاب الذي هدد بحرق المستشفى فور دخوله، فقد أحضروه عنوة، ولم تمضِ لحظات، إلا و«سب» هذا الشاب الجميع بما فيهم والدته، قائلًا إنه «حكومة» ولا يستطيع أحد أن يمنعه عما يريد، فهو لديه بدلة «السيسي» التي تتيح له أن يفعل ما يحلو له.


التف حوله الجميع؛ ليصطحبوه إلى الطبيب المعالج داخل العيادة.


فى هذا المكان، ترى أعدادًا لا بأس بها تنتظر منذ التاسعة صباحًا أملا في علاج يضبط "الكيميا" بداخلهم، وهناك كانت تجلس "ع.ج" صاحبة الـ29 ربيعًا، وحيدة، كانت تنتظر أن يأتي دورها لمقابلة الطبيب المعالج لها.


قضت «ع.ج» شهرًا في هذا المستشفى، ولكن في النهاية أصرت أن تتركه.


اقتربت منها، أتجاذب معها أطراف الحديث، قالت لي في البداية، إنها تريد أن تروي معاناتها لعل الحديث يخفف ما بداخلها، فهي تشعر بالوحدة الشديدة رغم وجودها بين أصدقائها ومعارفها، إلا أنها تفضل وحدتها بعدما كانت زوجة وأمًا لطفل جميل، ولكنها عرفت طريق المخدرات وأدمنت تناول "الحشيش" بكمية كبيرة للغاية.


قالت إنها كانت تتناوله فى البداية على سبيل التجربة و«تظبيط الدماغ» للحصول على النشوة، ولكن «مرة في مرة» تعودت عليه حتى أدمنته.


وتابعت: أنفق أموالا طائلة يوميًا على شرائه، وإذا تقطعت بى السبل لتدبير النقود اللازمة، فلا مانع لدي أن أبيع أثاث منزلي فأنا أعيش وحيدة ولا يهمنى شيئا.


«وزنى الزائد ووهن بشرتي جعلني أبدو أكبر سنًا عن عمري الحقيقي.. ما انعكس سلبا على حالتي النفسية وزادت معاناتي ووحدتي وأقبلت على تناول المخدر بشراهة لسنوات طويلة ورويدا رويدا أصبحت لا أتحكم في أفعالي وانفعالاتي»، هكذا تقول «ع.ج».


واستكملت: «في إحدى المرات، وأنا أشاهد التليفزيون، رأيت شابا بأحد البرامج الفضائية، وكان مدمنا ومَن عليه الله بالشفاء وأطلق دعوة أن من يريد العلاج عليه التوجه إلى مستشفى العباسية للصحة النفسية وهو سيقوم بمساعدته وتوجيهه فهو معالج هناك»، والمعالج هو شخص شفي من إدمان المخدرات ويساعد المرضى بالتنسيق مع إدارة المستشفى.


وتابعت: «قمت بالاتصال به؛ واتفقت معه، على أن أقابله بالمستشفى، وبالفعل حضرت إلى هنا وقابلته وبعد قطع التذكرة دخلت إلى الطبيب المختص الذي قرر علاجى لمدة زمنية لا تقل عن ثلاثة أشهر تحت الملاحظة».


واستكملت: «جهزت حقيبتي وتوجهت إلى المستشفى، استقبلتنى ممرضة وفحصتني جيدا، وفتشتنى تفتيشًا ذاتيا أوقفتني أمامها بالملابس الداخلية فقط، وبعد عمل التحاليل الطبية اللازمة للتأكد من عدم حملي أمراضًا فيروسية معدية، دخلت إلى عنبر الديتوكس وهو غرفة كبيرة تسع لستة آسّرة تضم بين جنباتها الحالات الجديدة المماثلة لحالتي».


وقالت وهى تشعر بحالة حزن شديد: «عالم مهيب بالنسبة لي أن أقضي فيه ليلتي الأولى، لم أستمع إلى همسات نفسي الرافضة للمثول لصوت العقل بالتراجع عما أفعله، ولكن في النهاية قررت تحدي نفسي لأنتشلها من الضياع الذي فيه، ولكن بعد اليوم الأول ندمت على دخول المستشفى؛ فالممرضات يعاملننا بغلظة وبجهل منقطع النظير لدرجة أن إحداهن قالت لي لفظا بعد أن صاحت بصوتها: أنتى فاكراني ديلر زى اللى كنتى تتعاملي معهم ولا إيه.. وقتها أجهشت بالبكاء فقد ذكرتني بمعاملة والدتي القاسية.. حاولت على الوضع بالداخل ولكنى لم أستطع».


واستكملت قصتها قائلة: «لا أستطيع أن أصف لك مدى المعاملة القاسية والمهانة التى تعرضت لها من الممرضات، ولا الطعام السيئ الذي يقدم لنا بالداخل من أرز نيئ ولحم ودجاج تشم رائحته الكريهة، لا أعرف كيف يتركوننا فريسة لممرضات لم يخضعن لتأهيل نفسي لكيفية المعاملة مع مرضى نفسيين هربوا من حياتهم بسبب سوء معاملة البعض لهم ولاذوا بمن ينتشلهم ويمد لهم يد العون».


وتابعت: «المستشفى من الداخل مثل السجن بعيد كل البعد عن التأهيل النفسي، فبداخله النوم بمواعيد والاستيقاظ بمواعيد ومن يخالف التعليمات تتم معاقبته بحرمانه من السيجارة!! نعم السيجارة بداخل المستشفى مثل السيجارة بداخل السجن لها أهمية قصوى تصرف لك بمواعيد محددة، ولا يشعر بأهميتها إلا من يعاني في الحصول عليها ورغم الشديدات إلا أن بعض النزلاء نجحوا في تهريب الحبوب المخدرة داخل الأماكن الحساسة بأجسادهن».


وتساءلت: «لا أعرف لماذا لا يسمحون لنا بالحصول على الهاتف المحمول حتى نتواصل مع أصدقائنا وأقربائنا ولا نشعر بالوحدة، لماذا يريدوننا أن ننعزل عن العالم الخارجي ونشعر بالضجر والملل وتمر علينا الساعات بطيئة، بالداخل يعالجوننا نظريا فقط».


أتذكر السيدة التي أدمنت تناول حبوب "الترامادول" تلك «القروية» البسيطة التي تسكن في غرفة متواضعة هي وزوجها وطفلاها وقد أدمنت فقط لأنها كانت تشعر بالوحدة والملل من حياتها فقد كانت تشتري تلك الحبوب بحسب قولها من سيدة تفترش بضاعتها داخل سوق للخضروات، بعدما بدأت بحبة واحدة من «الترامادول» أصبحت لا يكفيها شريط باليوم، وعندما ضج زوجها منها أتى بها عنوه إلى المستشفى وتركها ولم يسأل عنها منذ سنوات رغم أنها تماثلت للشفاء ولكن كلما راسلوه ليأتي لاستلامها لم يحضر.


وقالت إنها تتذكر «ع.أ» تلك السيدة صغيرة السن التي أدمنت المواد المخدرة بعدما تزوجت بفترة وجيزة لأن زوجها كان يتعاطى المخدرات وأراد أن يقضيا أوقاتا سعيدة في بداية زواجهما ولم تخل تلك الأوقات من جلب الحشيش لزوم «الفرفشة» بحسب روايتها حتى اعتادا على تناول أنواع مختلفة من المخدرات؛ وأصبحا لا يستطيعان العيش بدونها وأصبحت صداعا في رأس أهلها بكثرة طلباتها للأموال لإنفاقها على الشراء وقرر الأهل إحضارها إلى المستشفى لعلاجها وتطليقها من زوجها بعد العلاج.


وكشفت عن كارثة تتعلق بوجود «نزيلة» بينهم مريضة بالإيدز، مشيرة إلى أنها فكرت وقتها مغادرة المستشفى؛ لأن الإدمان بالنسبة لها أهون من الإصابة بهذا المرض الخطير.