رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

أسئلة غير إجبارية للحكومة المصرية

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي


لم يكن هناك حوار عام على شىء من الجدية والموضوعية فى زوايا النظر حول الحكومة المصرية الجديدة ــ باستثناء تعليقات مقتضبة على ورق صحف، أو تفاعلات صاخبة على شبكة التواصل الاجتماعى.

الاقتضاب حيث يجب الإسهاب بالحجج، كما الصخب بلا قاعدة معلومات موثوقة، يؤشران على الحالة الصحية المتراجعة للحياة السياسية.

كان ضيق المجال العام وتقلص مساحات الحريات الصحفية والإعلامية داعيا أول لشبه غياب أى اجتهادات فى الأزمات الماثلة، التى يدفع المواطن العادى فواتيرها ــ فلا حوار ممكنا إذا لم تتوفر بيئة عامة تحترم التنوع الطبيعى فى الآراء والمواقف بشأن الخيارات والسياسات.

وكانت الإجراءات الاقتصادية الأخيرة داعيا ثانيا للعزوف العام عن الانشغال بالحكومة الجديدة، لماذا خرج من خرج ولماذا دخل من دخل؟ ــ فالسياسات على حالها أيا كانت الوجوه الوزارية.

أى حكومة جديدة تستحق فسحة زمن للحكم عليها بقدر ما تتبنى من سياسات وتنجز من مشروعات، غير أن توقيت تشكيلها صاحب إجراءات اقتصادية قاسية رفعت أسعار الوقود والكهرباء والمياه والنقل العام والخاص ورسوم الخدمات العامة بصورة غير مسبوقة، وذلك قوض قبل أن تبدأ عملها أى رهان عليها فى تحسين الأحوال.

ثم كانت الدعاية المفرطة وغير المسبوقة فى الشوارع والميادين العامة وعلى الفضائيات للترويج للسلع والبضائع باسم دعم المنتخب الوطنى لكرة القدم فى «مونديال موسكو» داعيا ثالثا لقلة الاهتمام العام بالتشكيل الحكومى الجديد ــ فالعمل الدعائى يعطى شيئا من الأمل المخاتل لا يوفره الواقع التنفيذى المتعثر.

مع ذلك كله فإن الأسئلة الرئيسية تظل معلقة فى الفضاء، فإذا لم يكن هناك حوار يصحح ويصوب السياسات والأولويات فإن الأمور سوف تتجه إلى احتقانات وأزمات لا تحتملها مصر المنهكة.
فى مقدمة تلك الأسئلة طريقة اختيار الوزراء، على أى أساس ووفق أى مهمة أو تصور ورؤية؟
بصياغة أخرى للمفكر الاقتصادى الراحل الدكتور «إسماعيل صبرى عبدالله»: «من أين يجيئون بهؤلاء الوزراء؟».

الاجابة المعتادة تنفى أى خبرة سياسية وتأتى بالوزراء من الوسط الإدارى، أو الوسط الأكاديمى، أو بتدخلات غالبة لجهات فى الدولة ترشح وتستبعد.

بالنظر إلى سجل رئيس الوزراء الجديد «مصطفى مدبولى» فإنه يكاد أن يكون صورة أخرى من سلفه «شريف إسماعيل».

كلاهما لم يعهد عنه، فى أى وقت من حياته قبل توليه رئاسة الحكومة، أى قدر من الاهتمام بالعمل العام يتجاوز دوره الوظيفى.

وكلاهما تنفيذى كفء فى حدود تخصصه فيما يوكل إليه من مهام، الأول ــ فى حقل البترول.. والثانى ــ فى ملف الإسكان.

من الإنصاف لأدوار الرجال عندما يغادرون مواقعهم أن ينسب لـ«شريف إسماعيل» التطور اللافت فى مستوى أدائه لمهامه، حيث بدا عند البدايات كأن عالما آخر قد دخل إليه توا، لا يعرف أحدا من الشخصيات العامة ولا أحد يعرفه باستثناء من يدخلون فى نطاق عمله، كما لم تكن لديه دراية يعتد بها بالملف الاقتصادى الذى حمل به، لكنه بعد فترة بدا أكثر انفتاحا على الحياة العامة بقدر ما ساعدته صحته، وأكثر حفظا للأرقام والبيانات دون أن يضطر للنظر فى أوراقه، كما تحلى بلطف إنسانى أذاب جليدا داخل مجلس الوزراء وخارجه.

غير أن كل تلك الصفات الإيجابية لم تسعفه فى بناء صورة رئيس وزراء تتسق أدواره التنفيذية مع التعريف الدستورى، الذى ينص على أن «الحكومة هى الهيئة التنفيذية والإدارية العليا للدولة».. ويدخل فى اختصاصها: «الاشتراك مع رئيس الجمهورية فى وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها».

بالتعريف الدستورى فهذه هى «الحكومة السياسية».

إذا غابت الشراكة فى وضع السياسة العامة للدولة فإن الحكومة لا تتجاوز كونها «سكرتارية رئاسية»، تنفذ ما تكلف به، كل وزير على حدة غالبا، لا برنامج يضمها، ولا مسئولية تضامنية تجمعها، ولا أدوار لرئيسها خارج التنسيق العام بقدر ما هو متاح.

فى الأحوال الحالية يكاد أن يكون طلب «الحكومة السياسية» مستحيلا رابعا، فلكل شىء أصوله.
أهم أصل أن تكون هناك حياة سياسية وبرلمانية صحية ومؤسسات دولة تلتزم بالدستور وبيئة حزبية تقدر على إنتاج الكوادر الصالحة لتولى المهام التنفيذية ــ وهذه مسألة تجربة لابد أن تأخذ وقتها.
بعد (٣٠) يونيو (٢٠١٣) شهدت مصر أول وآخر «حكومة شبه سياسية» فى العقود الأخيرة، وهى الحكومة التى ترأسها «حازم الببلاوى»، فقد ضمت (٩) وزراء لهم خلفيات سياسية ينتمون إلى أحزاب «جبهة الإنقاذ الوطنى»، غير أن الظروف والملابسات لم تسمح لها أن تراكم خبرة، فقد كانت مهمتها الأساسية أن توقف الدولة على أرض صلبة فى مواجهة عنف وإرهاب.

ثم كانت حكومة «إبراهيم محلب»، وهو رجل له همة أكسبته شعبية لم تتوفر لغيره، عودة إلى حكومات التكنوقراط المعتادة، رغم أنه هو نفسه له خبرة سابقة فى منظمة الشباب أثناء سنوات «يوليو».

هكذا دخل «مدبولى» مكتبه محملا بالإرث نفسه، فهو رئيس حكومة ليس من شأنها رسم السياسات العامة، أو الاجتهاد خارج الخطوط المرسومة لها.

بموضوعية لا يصح تحميلها فوق ما تحتمل، أو مطالبتها بما خارج طاقتها.
غير أن الأسئلة، التى تطرح عليها، تستدعى إجابة ما أمام الرأى العام.
على رأس الأسئلة قضية العدل الاجتماعى وعدالة توزيع الأعباء.
الأولوية الحكومية للإصلاح المالى ــ خفض نسب التضخم والتحكم فى الأسعار.
هكذا كانت حسابات الحكومة السابقة التى تسرى على الحالية.
بالتعبير الرئاسى فـ«إننا يجب أن نتألم ونقاسى لنكون دولة قوية وذات شأن».
من هم المخاطبون بتحمل الألم والقسوة؟
إلى متى؟.. ومن يتحمل مسئولية الأزمة الاقتصادية المتفاقمة؟.. ما هو موروث منها وما هو مستجد؟

لماذا تتحمل الطبقة الوسطى والفئات الأكثر عوزا وحدها فواتير الإصلاح المالى؟
ولماذا لا يفرض على الطبقات الأكثر ثراء ما ينص عليه الدستور من ضرائب تصاعدية؟
فى اجتماعين ضيقين طرحت على رئيس الوزراء السابق «شريف إسماعيل» قضية عدالة توزيع الأعباء وما تستدعيه من تقشف حكومى وفرض ضرائب تصاعدية، أبدى اقتناعه لكن لم يحدث شىء، فقد تبخرت وعود التقشف ورفع المجلس النيابى مخصصاته فيما هو يدعو المواطنين العاديين إلى التحمل ويشكرهم على صبرهم، ولا اقترب أحد من الضرائب التصاعدية، ولا بدا هناك سبب مقبول لتأجيل ضريبة الأرباح الرأسمالية فى البورصة.
إنه انحياز اجتماعى يهدد البلد فى سلمه وسلامته ومستقبله.

بأى نظر فى التفاعلات المصرية تحت السطح فإن المعارضة الاجتماعية تزداد معدلاتها بصورة متفاقمة.
فى غياب السياسة، التى تكشف وتبين وتنذر فى الوقت المناسب لتصحيح المسارات، فإن مداهمات الحوادث لا يمكن استبعادها.
بتعبير رئاسى ثان: «الإجراءات الاقتصادية قد ترهق المواطن لكنها لا تكسر ظهره».
ما حدود طاقة التحمل؟
وما هى النقطة المفترضة التى تكسر ظهره؟
وبتعبير رئاسى ثالث: «أولويات المرحلة المقبلة تتصدرها قضايا التعليم والصحة والثقافة».
كيف وبأى برنامج وبأى تصور لإدارة الأزمات المستحكمة؟
من أين الموارد؟
ألا يستدعى ذلك التوقف عن المشروعات العملاقة لصالح المشروعات الإنتاجية؟
ثم إن الثقافة مسألة إبداع وخلق تتطلب طرح قضية الأمن والحرية بكامل الجدية ــ كيف نصون الأمن دون تغول على الحريات العامة ومصادرة الحقوق الدستورية للمواطنين؟
هذه أسئلة فى صلب السياسات والأولويات، لكنها ليست إجبارية لحكومة غير سياسية.
الإجابة ليست من اختصاصها، لكنها بدرجة أو أخرى فى موضع المسئولية.

نقلًا عن "الشروق"