رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

كلام فى الأمن القومى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي


الأمن القومى لأى بلد قضية على درجة عالية من الحساسية والخطورة.
فهو يدخل فى صميم وجوده وسلامته ومصالحه العليا.
وهو لا يعرف الأهواء والتقلبات فى النظر إلى التهديدات المحتملة والمخاطر الممكنة.
نظريات الأمن القومى ليست اختراعًا، كما أنها ليست طلاسم وألغازا يقف على أسرارها حراس وكهان.
للخرائط كلمتها الحاسمة فى صياغة تلك النظريات بذات قدر تراكمات التاريخ وخبرته.
إذا احترمت الحقائق تصون الدول أمنها القومى.
وإذا استبيحت فإن الانكشاف الاستراتيجى يبلغ مداه وفواتيره باهظة.
فى بلد مثل مصر أمنها القومى تحكمه جغرافيتها الفريدة، وقد كانت نعمة ونقمة فى نفس الوقت.
وصفها «نابليون بونابرت» بـ«أهم دولة فى العالم من يمسك بمقاديرها يسيطر عليه».
أعطت العالم أول حضارة فى التاريخ الإنسانى وقادت العالمين العربى والإسلامى فى محطات حاسمة، كما تعرضت لاحتلالات وغزوات قوضت أدوارها لقرون.
وفق الدكتور «جمال حمدان» صاحب «عبقرية المكان» فإن مصر إذا خرجت إلى محيطها تقوى وتنهض، وإذا ما انكفأت داخل حدودها ضعفت وانهارت.
هذه نظرية محكمة فى الأمن القومى أثبتت صحتها.
بالحقائق الجغرافية والتاريخية هناك قضيتان محوريتان من حيث حجم الأخطار والتهديدات.
الأولى ـ سلامة نهر النيل جنوبا، وهذه مسألة وجودية تتعلق بشريان الحياة.
تمثل التطورات الأخيرة فى إثيوبيا إزعاجا إضافيا، فإطاحة رئيس وزرائها «هايلى ماريام ديسالين» بانقلاب داخل المؤسسة الحاكمة ينذر بتعقيدات مستجدة، فالحكام الجدد أمام الاضطرابات القبلية والاجتماعية سيميلون إلى مزيد من التشدد فى المفاوضات والاستمرار فى استهلاك الوقت حتى تجد مصر نفسها أمام سد «النهضة» وقد بدأ تشغيله.
مثل هذه التطورات تدخل بطبيعتها فى اهتمامات الرأى العام ومصارحته بالحقائق مسألة أمن قومى.
والثانية ـ حماية الحدود شرقا حيث إسرائيل.
طوال التاريخ المصرى تبدت الأخطار شرقا أكثر من أى منطقة حدودية أخرى مثل ليبيا غربا والسودان جنوبا. 
وقد أنشئت إسرائيل لأسباب استراتيجية استهدفت عزل مصر عن المشرق العربى، كانت تلك الفكرة المؤسسة لـ«وعد بلفور» لا الأساطير الصهيونية عن أرض الميعاد.
بمعنى آخر وظفت تلك الأساطير لمقتضى المصالح الاستراتيجية فى تحجيم الدور المصرى وعزله عن محيطه.
لابد أن يطرح بكل وضوح سؤال اللحظة: إلى أى حد تضرب صفقة الغاز مع إسرائيل فى عمق الأمن القومى؟.. وأن تكون الإجابة عليه بلا التباس كلام، أو تبرير دعاية.
القضية ليست المنافع الاقتصادية المفترضة ولا فى التفاصيل الفنية.
القرار من أوله لآخره سياسى، وهو قرار دولة لا شركة خاصة عقدت اتفاقا مع إسرائيل لاستيراد غاز بقيمة (١٥) مليار دولار على (١٠) سنوات.
فى لحظة الإعلان عن الصفقة أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» أنه «يوم تاريخى» و«يوم عيد».
كم هدف أحرزته إسرائيل بذلك الخرق الكبير فى مستويات رفض التطبيع معها؟
هنا مكمن الخطر، خاصة أن صفقة الغاز ترافق التصعيد الإسرائيلى فى قضية القدس على خلفية قرار «ترامب» بنقل سفارة بلاده لها.
بأى اعتبارات أمن قومى يمكن تسويغ مثل هذه الصفقة؟
أسوأ ما يحدث للأمن القومى فى أى بلد الاستخفاف بحقائقه، أو استخدامه فى غير موضعه نيلا من أى اختلاف وتنوع فى الآراء.
الأمن القومى موضوع توافق واسع له إطار وحدود وقواعد.
إذا لم يكن هناك هذا التوافق يفقد البلد بوصلاته التى تحدد مواطن الخطر، فلا نعرف أين نقف؟.. ولا من أين قد تأتى الضربات المباغتة؟
بالتعريف فإن الأمن القومى مسألة تحصين للبلد تمنع الاختراقات فى بنيته، وهذه مهمة أجهزة المعلومات والاستخبارات التى أنشئت من أجلها.
كما أن نظرياته تصوغ العقيدة القتالية، أين مصادر التهديد؟.. ومن العدو؟
لم يكن هناك شك على مدى سبعين سنة منذ تأسيس الدولة العبرية فى تعريف مصدر الخطر الرئيسى.
وبالتعريف فإنه يدخل فى المصالح الاستراتيجية العليا، وهذه مهمة الدبلوماسية.
أين دوائر الحركة الرئيسية؟.. وأين الأولويات فى إدارة الملفات الخارجية؟
كانت أول محاولة لتحديد دوائر الحركة الدبلوماسية فى «فلسفة الثورة» عام (١٩٥٣)، وشملت على سبيل الحصر الدوائر العربية والإسلامية والإفريقية.
ذلك التحديد يتصل بالأمن القومى مباشرة.
يستلفت الانتباه فى النص الدستورى، أساس الشرعية، أنه اعتمد فى مادته الأولى ذات دوائر الحركة: «الشعب المصرى جزء من الأمة العربية يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامى، تنتمى إلى القارة الإفريقية وتعتز بإمدادها الآسيوى».
ويستلفت الانتباه فى نفس المادة تأكيدها على أن مصر «دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة ولا ينزل عن شىء منها، نظامها جمهورى ديمقراطى، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون».
النص يؤكد ثوابت الوطنية المصرية فى وحدة أراضيها وعدم النزول عن شىء منها ـ وهذه مسألة أمن قومى خرقها يقوضه.
كما أن أفقه يتسع للدولة الحديثة ومقتضياتها ـ وهذه مسألة أخرى ضرورية لتثبيت الأمن القومى على قواعد لها صلة بالعصر.

هناك نظرتان متباينتان للأمن القومى وتعريفه، أولاهما، تقصره على مهامه المباشرة من حيث هو أمن.. وثانيتهما، تدخله فى الشأن العام وتعتبر الحق فى المعرفة لازما حتى تكتسب الدولة مناعتها أمام أى تحديات ومخاطر.
وفق النظرة الواسعة فإن عزل الأمن القومى فى أطر ضيقة يسحب منه قدرته على تحصين مجتمعه.

لا تحصين بالأمن وحده والحريات العامة قضية أمن قومى، فلا توافق ممكن تحت الترهيب.

أجواء الخوف تضرب فى الأمن القومى بذات قدر إنكار الحقائق الأساسية، وأهمها أن دولة الاحتلال الإسرائيلى العدو الرئيسى.

لعل أفضل تعريف للأمن القومى: «إنه الحرص على حياة سليمة وصحية، حياة مستنيرة ومتعلمة ومتفهمة، إنتاج وفير يمكن لحياة كريمة، وطن قوى له وسائله فى ضمان حياة ومستقبله» ـ حسب الأستاذ «محمد حسنين هيكل».
روى ـ ذات ـ مرة نقلا عن الرئيس العراقى فى ذلك الوقت «جلال طلبانى» نص حوار ضمه مع الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين».

قال «طلبانى»: «إننا لا نضع البيض فى سلة واحدة».
علق «بوتين»: «إننى أضع البيض فى سلة واحدة لكنى لا أوزع بيضا».
رأى «هيكل» فى العبارة الأخيرة نظرية رائعة فى الأمن القومى قبل أن يردف: «إننا فى العالم العربى نصنع من البيض عجة حتى صارت أحوالنا عجة».

نقلًا عن «الشروق»