رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

«النبأ» تُحاور مريضًا متعايشًا مع الإيدز: «أفكر في الزواج والإنجاب».. (حوار)

مريض - أرشيفية
مريض - أرشيفية


في مكتب إحدى الجمعيات الأهلية المعروفة بالإسكندرية، جلس «م . س» يفكر كيف سيبدأ حديثه الجريء، يترقب أول سؤال سيطرح عليه، وخلال تلك الدقائق عادت به الأفكار والذكريات إلى زمن ليس ببعيد، كانت حياة أخرى، وحقبة مختلفة، تفصلها عن الحاضر ثلاث سنوات، فارقة هي بوابته لدنياه الجديدة. 

هو شاب في الثالثة والثلاثين من العمر، لا يختلف مظهره عن أي شخص آخر سوى ابتسامة مشوبة بالمرارة، لا تفارق وجهه، يحاول من خلالها مجابهة الحياة، ومجتمع رافض له، بينما يتسم حديثه بقوة داخلية واضحة، بدأ الشاب الثلاثيني يروي قصته مع المرض، كيف تم اكتشافه، ورد فعل أسرته وخطيبته، وعمله كموظف في هيئة النقل. 

روى كيف دمر هذا الفيروس حياته السابقة وأحلامه قبل زفافه بخمسة شهر فقط؛ قال: بدأت حياتي الحالية وكأني ولدت من جديد، أتذكر كل ما مضى وكأنه حلم، تركت خطيبتي وعملى وعائلتي، فيما عدا أمي التي تناست هي الأخرى حياتها السابقة وجاءت معي من القاهرة إلى الإسكندرية لنبدأ معا مشوار تعايشي مع فيروس «الإيدز». 

- منذ متى بدأت رحلة الفيروس معك؟ 
أكتشف إصابتي منذ ثلاث سنوات ونصف، ولا أعلم متى أصبت به، بالتحديد كان ذلك أثناء الاستعداد لزفافي الذي لم يكن قد تبقى عليه سوى خمسة أشهر فقط. 

-ما البوادر التي كشفت إصابتك؟ 
بدايته معي قبل عام من اكتشافي وجود الفيروس بجسدي، حيث ظللت طوال هذا العام أعاني من ارتفاع في درجات الحرارة وإسهال مستمر ونقص في الوزن من 125 إلى 75 كيلو، وللأسف لم يكتشف أي من الأطباء حالتي، حتى زادت الأعراض وأصبت بما يسمى "حزام ناري"، وهي التهابات تحاصر جسد المصاب وفي حالتي كانت في الجهة اليسري من الصدر. 

وعلى الفور توجهت إلى مستشفى الحميات، وهناك ظللت تحت الملاحظة لمدة ثلاثة أيام قمت خلالها بإجراء تحليل فيروس الإيدز وبمجرد ظهور النتيجة جلس معي رئيس القسم ومجموعة من الأطباء، وألقى إلي بالخبر الذي نزل على رأسي كالصاعقة، حتى أنني لم أستوعب أي شيء مما قاله لي بعد ذلك، وطلب مني المكوث بالمستشفى ثلاثة أشهر ففضلت الخروج لأيام حتى أستعيد نفسي وبالفعل عدت للمستشفي وبدأت رحلة العلاج الأولي، تخللها إعطائي مخفضات للحرارة وعلاج للحزام الناري حتى استطعت الوقوف على قدمي. 

-كيف واجهت مجتمع المحيطين وأولهم العمل؟ 
كان المطلوب مني إبلاغ مقر عملي بوزارة النقل، بطلب إجازة لمدة ثلاثة ـشهر وكما هو المتبع في تلك الحالات، تم إرسال طبيب إلى مستشفى الحميات للاطلاع على حالتي، وهناك علم بالأمر فما كان من الإدارة إلا إعطائي إجازة مستمرة لمدة ثلاث سنوات بالقرار 259 

-هل كنت تتحصل على جميع مستحقاتك في تلك الفترة؟ 
لا، كنت أحصل على المرتب الأساسي فقط وهو 310 جنيهات، وفي تلك الأثناء زارني بعض الزملاء المقربين، وأخبروني أني غير مرغوب في من زملاء العمل، وبالفعل وعقب خروجي وانتهاء الإجازة، توجهت إلى الإدارة، وهناك خيروني ما بين نقلي إلى الواحات بدرجة وظيفية أقل "عامل" أو استيفاء معاشي بعد إعلان جميع الزملاء رفضهم العمل معي في مكان واحد. 

-هل ترى أنها كانت محاولة لإبعادك عن العمل بشكل قانوني؟ 
بالفعل فأنا أجبرت على تسوية معاشي بشكل غير مباشر، عندما طلبوا مني العمل في مكان نائي وعلى درجة عامل دون مراعاة لظروفي الصحية، بعدما كنت أشغل وظيفة في تفتيش الديوان العام. 

-كيف واجهت مجتمعك الصغير الأسرة والخطيبة؟ 
لم أتردد لحظة واحدة في فسخ الخطوبة، وكانت هناك أشياء تشغلني وتؤلمني أكثر من فقد زوجة أو خطيبة، وبالفعل أرسلت لأسرة خطيبتي التي كانت تعمل بالمحاماة، قائلا كل شيء قسمة ونصيب دون إخبارهم شيئا عن حقيقة مرضي. 

-ماذا عن أسرتك؟ 
أنا أنتمي لأسرة مكونة من أب وأم وشقيق وشقيقة، الوالد يعمل في وظيفة حكومية بإحدى الهيئات، وهو لم يتقبل الأمر خلال الأيام التي مكثت فيها بالمنزل بعد اكتشاف المرض، وانحاز له شقيقي، بينما وقفت الشقيقة حائرة بيننا ولم أجد من يساندني في محنتي سوى أمي. عشت أياما مريرة أعاني من معاملة أسرتي ونظراتهم، حتى قررت ترك المنزل، وأصرت أمي على الذهاب معي، فحاول والدي منعها لينتهي الأمر بطلاقهما واصطحبتها إلى الإسكندرية لنبدأ حياة جديدة تاركين كل الماضي خلفنا. 

-هل كان ذلك حافزا لك أم شعرت وقتها أنها النهاية؟ 
كانت أمي هي الحافز الأول لي في تمسكي بالحياة، وأعادت بنائي من جديد خلال تلك الفترة. والعامل الثاني كان الدكتورة ايفيت عادل مسئول الايدز بالجمعية، ولا انكر ان هناك متعايشين لم يستطيعوا الصمود وانهارت مقاومتهم بمجرد علمهم بالاصابة وتوفوا. أما عني فقد تركت كل ما كان يتعلق بالماضي أصدقائي وعملي وأسرتي وكونت صداقات جديدة مع متعايشي الإسكندرية؛ حتى أصبحت مرشدا لهم؛ وهو ماجعلنا جميعا نشعر بالراحة فلا يوجد خوف أو نظرات لوم واستهجان ورفض بيننا كما يفعل معنا المجتمع. 

-هل أصبحت فكرة الزواج بالنسبة لك مستحيلة؟ 
أفكر بالفعل في الزواج من إحدى المتعايشات، وبدأت في سؤال الأطباء للتعرف على كيفية إنجاب أطفال دون إصابتهم بالفيروس؛ حيث أكدوا إمكانية الإنجاب ولكن بشروط وطرق معينة عبارة عن برنامج نلتزم به خلال فترة الحمل والرضاعة لمنع انتقال الفيرس للأبناء وقد حدثت بالفعل حالات زواج بتلك الطريقة. 

-كيف تقضي وقتك بصحبة المتعايشين والتعامل مع المجتمع الخارجي؟ 
مثل أي إنسان ولكن يحكمنا وضعنا الجديد خوفا من اضطهاد المجتمع؛ حيث نقيم لقاءات وحفلات وأعياد الميلاد داخل الجمعية وخارجها ونتوجه للتنزه في رحلات جماعية ومعنا أطفال المتعايشين والذين تم إنجابهم دون معرفة الأب والأم بحقيقة مرضهم، حتى أننا أقمنا منذ فترة حفل عيد ميلاد أحدنا في الشارع بمنطقة كوم الدكة وسط مشاركة الأهالي. 

-وماذا كان عن رد فعل الأهالي تجاه احتفال متعايشي الإيدز بينهم؟ 
بالطبع لم يكن أحد يعلم أي شيء عنا، ومع ذلك فنحن كمتعايشين نحرص على عدم التعامل من خلال وسيلتي انتقال الفيروس وهما الزواج ونقل الدم وفيما عدا ذلك التعامل يكون طبيعيا، حتى أن بيننا أساتذة جامعة وطبيبات صيدليات واخصائيين نفسيين، وهم مندمجون في أشغالهم بصورة طبيعية. 

-ما رأيك في منظومة العلاج الخاصة بفيروس الإيدز؟ 
منظومة العلاج في مصر ضعيفة وإجراءات صرفه قاسية تستلزم سفر المتعايش إلى القاهرة للحصول على الموافقات، وأعرف عددا من المتعايشين ساءت حالتهم ووافتهم المنية قبل تلقي العلاج.

وللأسف هناك أطباء لا يعلمون كيفية التعامل مع متعايشي فيرس "HIV"، والملجأ الوحيد لنا هو مستشفى الحميات إلا أن المعاملة هناك أيضا تتم معنا بشكل فيه حرص مبالغ، كما أن الأطباء يقومون بصرف العلاج فقط دون إجراء كشف دوري بسبب تعطل جهاز قياس الفيروسات وجهاز قياس نسبة المناعة دائما، وعند توجهي لصرف العلاج يسألني الطبيب فقط عن اسمي ويقوم بصرفه لي. 

-ماذا عن موقف باقية المستشفيات ومقدمي الخدمات العلاجية مع المتعايشين ومرضي الإيدز؟ 
المستشفيات الحكومية في الغالب ترفض استقبال المتعايش ومريض الإيدز، والخاصة تغالي في أسعارها نظرا لحالة الطوارئ التي يتم رفعها في حال دخول أحدنا لإجراء كشف أو عمل جراحة، وأنا بنفسي عايشت موقفا كاد يودي بحياتي عندما شعرت بآلام مبرحة في بطني منذ ما يقرب من عام. 

وتابع: توجهت على اثرها الى مستشفى الحميات ولم يستطع الاطباء التوصل لاسباب الالم، حتى اكد لي طبيب انني اعاني من التهاب بالزائدة وعندها اسرعت الى المستشفى الجامعي الرئيسي الميري، وهناك رفضوا استقبالي قائلين "لا نتعامل مع متعايش". 

ونفس الرد وجدته في شرق المدينة وعندما توجهت إلى مستشفى خاص طلبوا مني دفع 25 ألف جنيه، لأن كوني متعايشا يستلزم شراء أدوات جراحية جديدة والتخلص منها بعد ذلك، ولم أجد أمامي سوى الاتصال بالدكتورة ايفيت التي أرسلتني إلى مستشفى أبي قير العام وهناك قاموا بإجراء الجراحة وتبين أن الزائدة انفجرت منذ يومين وتسببت في التفاف الأمعاء. 


هل معني ذلك أن المستشفيات الحكومية ترفض بشكل مباشر ودائم التعامل مع المتعايشين؟ 
نعم في أغلب الأحيان، والدليل علي ذلك حالات كثيرة لمتعايشين معنا بعضهم اضطر إلى اللجوء لمستشفيات خاصة برغم ضعف الإمكانيات، وهو ماحدث مع رضيع مصاب بالفيروس اضطررنا لجمع نقود وإدخاله  أحد المستشفيات الخاصة بعدما رفضت الميري استقباله، فيما فقد متعايش حياته عندما توجه الى مستشفى جمال عبد الناصر لاجراء جراحة الزائدة واثناء العملية اكتشف الاطباء اصابته بالفيروس فقاموا بخياطة بطنه مرة اخرى دون اتمام الجراحة وقاموا بنقله في سيارة اسعاف الى الحميات ليتوفى عقب ذلك. 

-كيف تتعامل مع الفيروس؟ 
في البداية كنت أشعر بالذعر عند إصابتي حتى بالبرد، إلا أنني وبعد فترة من محاضرات الرعاية الذاتية التي نتلقاها وتعني كيفية التعامل مع الأمراض البسيطة وعلاجها مثل الانفلونزا والإسهال؛ اصبحت مثل أي إنسان طبيعي خاصة مع انتظامي في تناول العلاج وتطعيمات البرد والسل والدرن وترطيب البشرة الدائم؛ حتى لا تصاب بالجفاف، لذلك أشعر باستقرار في حالتي إلا أن أي متعايش معرض للمضاعفات رغما عنه في حالة تعود الجسم علي خط العلاج الأول وعدم استجابته له، وفي تلك الحالة يجب انتقاله إلى الخط الثاني وهو غالي الثمن، بالإضافة إلى أنه غير متوافر مثل الأول كما علمنا، والمشكلة أن مصر لا يتوافر فيها سوى خطين فقط للعلاج كما عرفت لذلك عند عدم الاستجابة يصبح المتعايش في خطر.

-كيف ترى الحياة الآن؟ وكيف يراكم المجتمع في رأيك؟ 
المجتمع منقسم إلى شقين، بعضه مصاب بحالة هلع لمجرد تواجدنا في نفس المكان، حتى ولو لم يحدث تعامل مباشر، والآخر يرفض تصديق وجودنا من الأساس، حتى أن إحدى السيدات أكدت لي أنه لا يوجد مرضي أو متعايشو إيدز في مصر، وعلي الرغم من ذلك أحاول وكل متعايش بقدر الإمكان التأقلم مع الحياة الجديدة، وجميعنا نحرص على التعامل مع المحيطين في الحدود الأخلاقية، وفيما عدا ذلك نحن مندمجون بشكل طبيعي ولا حاجة لنا بإخبار أحد بحقيقة إصابتنا بالفيروس؛ نظرا للتمييز والوصمة التي يتعرض لها المتعايش من المجتمع.