رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

غداً ننسى فلا نأسى على ماضٍ تولّى..

حمدي رزق- أرشيفية
حمدي رزق- أرشيفية


نزوع غريب يسحب الساحة الفكرية إلى الماضى البعيد أو القريب، يشدنا إلى الخلف، يسحبنا إلى الغريق، مستقبل مصر أمانة نضيعها فى معارك ماضوية عبثية، لا وقتها ولا أوانها فى دولة تنزف دماً، وكأننا نمتلك رفاهية العبث فى أوراق الماضى ونحن فى أمَسّ الحاجة لكل ثانية للتفكير فى الحاضر بحثاً عن مقعد فى قافلة المستقبل.

مصر فى مفترق طرق وعرة، ونحن نتفرق شيعاً وأحزاباً وقبائل وجماعات، يستحيل عبور الطريق هكذا ونحن جماعات مشتتة لا تتفق على شىء ولا تقف على شىء، ولا تفكر فى غد يدهمنا بعجلاته القاسية، بل تأخذنا بعيداً، تبحث عما يحرفنا عن مطالعة كتاب المستقبل.

الماضويون استيقظوا إذ فجأة من قبورهم، كل طلعة صباح هناك مَن يستصحب شخصية من الماضى يسوقها بضاعة خاسرة فى الفسطاط المنصوب، ومن حوله بهاليل الماضى ودراويشه يهتفون حباً وكرامة، ليست هكذا تُورَد الإبل، الأمم ذهبت إلى الفضاء، المستقبليون يقطعون السنوات الضوئية، ونحن نعيش فى قفار أنفسنا ننبش فى خشاش الماضى، الأمم بلغت شمس المعرفة، ونحن فى جهلنا نَعْمَه، ويحمدون على نعمة الجهل.

متشوق لفكرة لبكرة تبلل ريق الشعب الجاف إلى المعرفة، تنقله نقلة، تحركه عن موضع يتموضع فيه، لا يغادره، أخشى أننا أمة صارت من الماضى، ترتد إلى عصور القبيلة، وتتناحر القبائل فيما بينها على شح الزاد، فإذا ما امتلأت بطونها عيش حاف، ذهبت إلى الفسطاط الكبير حيث تدور رحى معارك المديح والهجاء.

نتغنى طرباً، وغداً ننسى، فلا نأسى على ماضٍ تولّى، ولكن لا نستبطن ماهية هذا الغد، ولا نستعد لهذا الغد، غارقون حتى آذاننا فى مآلات الماضى، وتشدنا قوة غبية إلى قرون خلت، أسرى الماضى، قيود الماضى، شخوص الماضى، حتى إذا ما خطب فينا خطيب استلهم الماضى، خطاب ماضوى حزين يحتوينا حتى لا نعرف للمستقبل عنوانا.

الأمم لم تتقدم إلا بعد أن رفعت رأسها وصوبت نظرها إلى المستقبل، تبحث عن فرجة فى المستقبل القريب، تُجيل النظر، تفكر للأمام، لا تتقهقر إلى الخلف، تَمَعَّن يا هذا، معارك السنة الماضية جلها من الماضى وإليه تعود، وكأنه مكتوب علينا أن نعيش الماضى فى الحاضر، ولا نملك من صنعة المستقبل سوى حروف الكلمة، التى استغلقت حجباً علينا.

العالم ودّع الألفية الأولى مترحماً عليها، ويستشرف آفاق الألفية الثالثة من عمر البشر المؤرخ، ونحن لانزال محلك سر، أنفقنا خُمس الألفية الثانية فى معارك الألفية الأولى، ألا تنظرون إلى أجندة التاريخ أمامكم، مر بنا 17 عاماً منذ احتفال الألفية ومازلنا نفكر بعقول الربع الأول من الألفية الماضية، وإذا تزحزحنا قليلاً فإلى معارك الأرباع الثلاثة الباقية، وكأننا دببة تتوفر على بطونها دون أن تنظر ذوبان الجليد، الذى يوشك أن يُحيلها عدماً.

كلى شوق للمستقبل أستشرفه، ولكن عقول الماضى تسيطر على الذهنية الفكرية الآنية، راجع مناهج مدارسنا وجامعاتنا، وابحث عن المستقبل ستجد الماضى ينتظرك خلف غلاف الكتاب، وقبل أن تدلف يلفك الماضى برداء ثقيل، نصوص ماضوية غارقة فى التمجيد أو التقبيح، نصوص تثير غباراً مسموماً فى وجوه أجيال، تطمس أعينهم عن رؤية عالم جديد، أجيال وراء أجيال تعيش الماضى وتتنفس الماضى وتتحلق حول موائد الماضى تتلذذ بطعم زاده وتلوك سيرة شخوصه، فإذا ما ذهب أحدهم إلى المستقبل قولاً.. قالوا مخبول، أو ضربه مَسّ من جنون!.


نقلًا عن "المصري اليوم"