رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

«غيرَ مُثقَلين بظلم ولا ظالمين»

حمدي رزق- أرشيفية
حمدي رزق- أرشيفية


لو أصاخ الجمع السمع لفضيلة مفتى الديار المصرية، العلامة الدكتور شوقى علام، لما ضيقوا على إخوتنا فى الصلاة، ولقضينا تماماً على الفتنة الطائفية ما ظهر منها وما بطن، وقضية بناء وترميم وفتح الكنائس المغلقة هى ما يعكر صفو إخوتنا، ويعمق إحساسهم بالغبن فى وطنهم.


فضيلة المفتى يضرب مثلا، ويؤسس لفقه المواطنة التى ترعى حقوق أصحاب الديانات التى اجتمعت فى أرض الأديان، يذهب إلى بواكير عهد النبوة ويجلى سماحته صلى الله عليه وسلم فى قوله: «استوصوا بأقباط مصر خيراً فإن لكم فيهم ذمة ورحماً».


يقطع مولانا الدكتور علام بالقول: بناء الكنائس جائزٌ شرعًا وفقًا للشريعة الإسلامية إذا احتاج أصحابها إلى ذلك فى عباداتهم وشعائرهم التى أقرهم الإسلام على البقاء عليها، حيث إنَّ الشرع الشريف جعل تغلُّب المسلمين وجهادهم لرفع الطغيان ودفع العدوان وتمكين الله تعالى لهم فى الأرض سببًا فى حفظ دور العبادة، وليست هذه الدور معابد كفرية يُعبد فيها غير الله، ولم يَرِدْ المنعُ من ذلك فى شىء مِن النصوص الصحيحة الصريحة، كما يجوز إعادة بناء ما تهدَّم وتلف منها وترميمه وإصلاحه، رعايةً للمصلحة العامَّة وضبط النظام العام والاستقرار المجتمعى، ولا يُعدُّ من يقول ذلك كافرًا أو مُرتدًا أو جاهلًا.. إلى آخر ما يدَّعيه المنكرون.


ويتقفى فضيلة المفتى آثار عالِمى الديار المصرية: «الإمام المجتهد المحدث الفقيه أبوالحارث الليث بن سعد، والإمام المحدث قاضى مصر أبوعبدالرحمن عبدالله بن لهيعة»، على أن كنائس مصر لم تُبْنَ إلا فى الإسلام، وأشارا على والى مصر «موسى بن عيسى» فى زمن هارون الرشيد بإعادة بناء الكنائس التى هدمها مَن كان قبله، وجعلا ذلك مِن عمارة البلاد، وكانا أعلم أهل مصر فى زمنهما بلا مدافعة.


فروى أبوعمر الكندى فى كتاب «الولاة والقضاة»: «أن مُوسَى بْن عيسى لمّا ولِّى مصر من قِبَل أمير المؤمنين هارون الرشيد أَذِن للنصارى فِى بُنْيان الكنائس التى هدمها على بْن سُليمان، فبُنيت كلّها بمشْورَة الليث بْن سعد وعبدالله بْن لَهِيعة، وقالا: هُوَ من عِمارة البِلاد، واحتجَّا أن عامة الكنائس التى بِمصر لم تُبْنَ إلَّا فِى الْإِسْلَام فِى زمَن الصحابة والتابعين»، ويذكر المؤرخون أنه قد بُنِيت فى مصر عدة كنائس فى القرن الأول الهجرى، مثل كنيسة «مارمرقص» بالإسكندرية ما بين عامى (39هـ) و(65هـ)، وفى ولاية «مسلمة بن مخلد» على مصر بين عامى (47هـ) و(68هـ) بُنِيت أول كنيسة بالفسطاط فى حارة الروم، كما سمح «عبدالعزيز بن مروان» حين أنشأ مدينة «حلوان» ببناء كنيسة فيها، وسمح كذلك لبعض الأساقفة ببناء ديرين.


ولا يوجد نص شرعى صحيح صريح، وفقًا لمفتى الجمهورية، يمنع بناء الكنائس ودور العبادة وإحداثها فى بلاد المسلمين عندما يحتاج إليها أهل الكتاب- بل الأدلة الشرعية الواضحة ومُجمَل التاريخ الإسلامى وحضارة المسلمين، بل وبقاء الكنائس والمعابد نفسها فى طول بلاد الإسلام وعرضها، وشرقها وغربها، فى قديم الزمان وحديثه، واستحداث كثير منها فى بلاد المسلمين فى العهود الإسلامية- كل ذلك يشهد بجلاء كيف احترم الإسلام دور العبادة وأعطاها من الرعاية والحماية ما لم يتوفر لها فى أى دين أو حضارة أخرى.


ويذكر بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسقف بنى الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: «أنّ لهم على ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ألّا يُغَيَّرَ أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا شىء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غيرَ مُثقَلين بظلم ولا ظالمين».