رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

حق الآخر فى قطع رأسك

أمينة خيري
أمينة خيري


فرق كبير بين أن تٌعلى قيم التنوع، وترسخ جذور الحريات، وتؤكد أهمية احترام الخيارات، وتروج لكونك من أعتى الديمقراطيات، وتفاخر بأنك أمة لتعدد الإثنيات والعرقيات والأديان واللاأديان، وبين أن تكون قد حفرت قبرك بيديك. 

عشت فى بريطانيا سنوات طويلة فى أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وعدت إليها فى بداية الألفية وأزورها دائماً، فى البداية كان إعجاباً وانبهاراً بتمكن مسلمين من أصول آسيوية وعربية مختلفة من أن يعيشوا ويعملوا فى «سيدة البحار»، حيث الثقافة المختلفة كلياً. 


سكنت فى بداية الأمر مع عائلة هندية مسلمة، وكان ولداها الصغيران يذهبان إلى مدرسة لتحفيظ القرآن، وعلى الرغم من أن الوالدين المقبلين من الهند تمكنا من شراء بيتين فى شمال لندن بعد سنوات قليلة من نزوحهما من وطنهما، إلا أن نبرة كآبة لا تخلو من مقت كانت دائماً تسيطر على حديثهما عن بلدهما الجديد حيث ولد ابناهما، ورغم أن السيدة تعلمت الإنجليزية بالمجان كخدمة من الحكومة البريطانية تقدم للمهاجرين، إلا أن شعورها بعدم الارتياح تجاه بريطانيا كان مستمراً، وعرفت فيما بعد أن الوالدين كانا يترددان على «شيخ» باكستانى يقيم على مقربة من البيت وذهبت معهما ذات مرة، وصُدِمت حين وجدت أن الدرس يدور فى دوائر مفرغة قوامها ضرورة عدم الاندماج فى هذا المجتمع غير المسلم، ومن ثم غير المؤمن، وبالتالى الذى لن يرد على جنة، والتعامل معه فى أضيق الحدود، لكن دون أن ينال ذلك من لقمة عيش، وذات مرة، زار الأسرة زوجان شابان وصلا البلاد حديثاً مقبلان من باكستان، ودُعيت على العشاء مع المجموعة، وتبادلنا أطراف الحديث، وأظهر الزوج الشاب تعجبه من وجودى كفتاة مسلمة وحدى فى بريطانيا، فهذا حرام، وحين علم أنى أعمل فى جريدة عربية مسائية حيث يبدأ العمل فى ساعة متأخرة من الليل، كاد يسقط مغشياً عليه، ولأنه مسلم غيور على دينه، بذل محاولات عدة للعثور على «زوج مسلم» لى حتى يكسب فىَّ ثواباً وينهى الذنوب المتتالية التى أقترفها.


وعدت إلى مصر، ثم اضطرتنى الظروف للعودة إلى بريطانيا بعدها بسنوات قليلة، حيث سكنت فى منطقة أخرى، وتحديداً فى جنوب لندن، المنطقة التى كنت أعرفها جيداً فى الثمانينات، حيث تنوع عرقى ودينى وثقافى تحولت فى بدايات الألفية الثالثة إلى حى إسلامى متشدد، سيدات منتقبات ورجال ملتحون ومسجد ضخم جداً اسمه «بيت الفتح» أثار الكثير من الاعتراضات أثناء بنائه من قبل بقية السكان، حيث طراز معمارى لا يمت للمنطقة بصلة، فى الوقت نفسه، كانت منطقة أخرى فى لندن وتحديداً شرقها اسمها «بريك لاين» تشهد حراكاً إسلامياً متشدداً غير مسبوق، المساجد التى اعتبرت بريطانيا السماح ببنائها علامة من علامات احترام الآخر والسماح له بممارسة طقوس دينه بكل حرية، تحولت إلى بؤر لأقصى درجات التطرف، وسيطر عليها أفراد أصبحوا يجاهرون بضرورة تحويل المناطق التى يعيشون فيها فى شرق لندن إلى مناطق تخضع لحكم الشريعة الإسلامية، كما تزايد عدد المدارس الإسلامية التى لا تدرس سوى التاريخ الإسلامى والشريعة الإسلامية، وحتى التحذير الذى أطلقه أحد مفتشى التعليم فى عام 2014 من أن مثل هذه المدارس قنبلة موقوتة تحوى عنفاً وقتلاً ودماء مغلفة بغلاف دينى حيث أطفال ولدوا فى بريطانيا ويؤمنون أن قانونها قانون باطل وأن القانون الحق هو بنود الشريعة، وأن غير المسلم عدو ينبغى قتاله أو اجتنابه فى حال عدم اقتناعه باعتناق الإسلام أو قتاله، لم يلق اهتماماً يذكر، وذلك دفاعاً عن التنوع وحرية الآخر. 


وبدأت الظاهرة تتمدد فى أحياء ومدن بريطانية عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر «وولذام فورست» فى شمال بريطانيا، حيث أعلن أحدهم واسمه «أبوعز الدين» الذى نصب نفسه «مديراً لمسلمى الحى» «وولذام جرين» منطقة تحكمها الشريعة الإسلامية، وألصق أتباعه الكثيرون ملصقات توضح الممنوعات فى المنطقة، ومنها النساء اللاتى لا يلتزمن بالحجاب أو النقاب، والمشروبات الكحولية، والحفلات. ولا يفوتنا ذكر أنجم شادورى الداعية البريطانى من أصل باكستانى وصاحب التاريخ الطويل فى الدعوة إلى التطرف وأخيراً تمنيه التوفيق لإقامة دولة الخلافة، وفى عام 2015 وفى قلب شارع أوكسفورد النابض بالسياح والمتسوقين فى وسط لندن، كان شباب ملتحون بجلابيب قصيرة يوزعون على المارة وريقات تدعوهم للانضمام إلى الدولة الداعشية، وتحمل بشرى بزوغ فجر الخلافة الإسلامية وتروج لمبادئ «دولة الخلافة فى العراق والشام» التى تم تأسيسها، وقتها وجدت أن كثيرين ممن يرفضون فكرة الخلافة من المسلمين فى بريطانيا لا يطلقون عليها صفة الإرهاب ولا يصمونها بنعوت العنف والقتل والخراب، هى جماعة «متطرفة». أما لماذا لا يشجب أو يندد أو يرفض مسلمو بريطانيا «داعش»؟ فذلك -بناء على نقاشات وآراء سمعتها- فقد قال البعض إن بريطانيا قضت على الخلافة الإسلامية قبل عقود، لكن ها هى مقبلة، وآخرون قالوا إن قواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان تجبر الجميع على السماح للبريطانيين بالآخر ليعبر عن رأيه ويجاهر بتوجهه، آخرون راودهم حلم العيش فى كنف دولة الشريعة، ورغم كل هذا وغيره كثير، ورغم ما ورد فى تقرير الدبلوماسى السير جون جنكنز عن جماعة الإخوان والمقدم إلى مجلس العموم تأكيده أن جذور فكرها يدعم الإرهاب، اكتفت الحكومة البريطانية بمطالبة الجماعة بالتعهد بنبذ الإرهاب! المثل المصرى يقول إن «من يحمل قربة مخرومة تخر على راسه» وربما رؤوس من حوله.


ملحوظة: أنت تؤمن بحرية الآخر وحقه فى الممارسة والتعبير، لكن الآخر لا يؤمن بذلك، لذا حين يتمكن يحرمك من الممارسة ويسلبك حقك فى التعبير ويقطع رأسك وقت التمكين.


نقلًا عن الوطن