رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

«الروبوت» يحرك الثورة الصناعية الثالثة في الصين

الروبوت - أرشيفية
الروبوت - أرشيفية

كان يقف بثقة ووجه مبتسم، يلقي التحية على كل المارة دون استثناء، فوجوده في مركز التسوق في «شيدان»، وسط العاصمة الصينية «بكين»، كان كافيًا لخطف الأنظار، لكن ذكاءه وخفة دمه، جعلا مكانه الأكثر رواجًا وازدحامًا في المول التجاري الشهير.



من نتحدث عنه لم يكن إنسانًا من «لحم ودم» رغم تمتعه بصفات البشر؛ لكنه روبوت أو «إنسان آلي» يحمل خصائص البشر، حجمه الصغير، ولسانه «السليط» أحيانا، كان يثير فضول المارة، فيقفون لمشاهدة هذا الكائن الذي اقتحم حياة الصينيين، وبات ينظر إليه بقلق وارتياب رغم عدم إخفائهم مشاعر الفخر والانبهار به.



اخترقنا السياج البشري حول «باو باو» كما طلب أن نناديه، و بإلقاء نظرة أعقبتها التحية الصينية المعتادة «ني هاو»، نجحنا في امتلاك عقله وبصره معنا لدقائق معدودة وسط مشاركة غلب عليها المداعبة من قبل الجمهور.



نزلت على ركبتي جاثيًا لأصبح في مستوى طوله البالغ 0.6 متر تقريبا وسألته على الفور: ما اسمك؟. فرد في أقل من ثانية: اسمي «باو باو».

وبخفة لمست يده، حتى فاجأني سريعا: لا تزغزغني، فلمست قدمه فقال: «أنت تضربني»، وتابع في تحد: أنا أستطيع أيضا ضربك.



في خضم التفاعل، فاجأه طفلي بركلة في قدمه، فرد عليه مازحا: رجلك ريحتها وحشه لا تضربني!، منتزعا بتعبيره ضحكات الجمهور، وتابع مخاطبا الحشد بنبرة تثير الاستعطاف: لا تتجمعوا حولي لأنني خجول.



لم ينته الحوار المقتضب بالصينية حتى داهمه طفل آخر بسؤال: هل تكتب لي واجبي المدرسي؟، وكأنك بهذا السؤال ضربت رأسه بلوح من الثلج، ولم يجد على ما يبدو في قاموسه ردا مناسبا، فاكتفى بعكس تعبيرات وجهه تعبيرًا عن السخرية أو الامتعاض.

وتبدو نبرة التحدي التي تحدث بها «باو باو» تشير إلى حد كبير إلى طبيعة علاقة بدأت تتبلور بين «الروبوت» والإنسان الصيني في الآونة الأخيرة.



إذ بدأ يزاحم الأول الثاني في كل تفاصيل حياته يساعده أحيانا ويستبدله أحيانا أخرى، تقول «فانج فانج»، 22 عاما، تعمل باعة في محل:«إنه يتميز بخفة الحركة، يتحرك يمينًا ويسارًا ثم يخطو خطوات سريعة إلى الأمام والخلف، يدعو الزبائن إلى تذوق عصائر البرتقال والكيوي والكوكتيل، ويرد على الأسئلة في نفس الوقت.



وتابعت:«إنه ذكي يقوم بمهام متنوعة ويتفاعل بتعبيرات الوجه أيضا»، فقاطعتها سائلًا:«هل يمكن أن يقوم بدورك هنا؟، رسمت ابتسامة على وجهها وقالت: «ربما ليس الآن»!.


الروبوتات تقتحم الصين

لكن في الواقع، «باو باو» ليس إلا مجرد جزء من الصورة، ليس إلا جنديا واحدا في جيش هائل من الروبوتات اقتحم حياة الصينيين حديثا، ييسر حياتهم، ويقضي احتياجاتهم، وصار عاملًا فاعلًا في مصانعهم، وبات يهددهم أخيرًا في «أكل عيشهم»، ومصدر رزقهم.



غير أنه في الواقع يشهد على تطور سريع في صناعة الروبوتات المحلية في بلد كانت تسيطر على سوقه حتى وقت قريب، الشركات الأجنبية من اليابان إلى ألمانيا والولايات المتحدة.



فقد بات الروبوت وجها مألوفا في أماكن كثيرة في المدن الكبيرة والصغيرة، ويثير المزيد من الجدل أينما حل، لاسيما ذلك الشبيه بالإنسان شكلا أو  محتوى.


أصبح يعتمد عليه في المطاعم بدل «النادل»، يتلقى الطلبات من الزبائن، ويقدم لهم الطعام، وبات موجودا أيضا في البنك مبرمجا على إجابات الأسئلة الشائعة للعملاء، وحتى المصالح الحكومية كموظف استقبال يجيب على أسئلة السائلين، ويقودهم إلى الموظف المختص، وإلى الأماكن التي يقضون فيها احتياجاتهم.



وفي المعبد تجده أيضا ينشر بثقة ولباقة تعاليم الديانة البوذية، لسد الفجوة الروحية عند الشباب في إنهماكهم الملحوظ مع أجهزة الحاسوب والتليفونات الذكية.



نشر الديانة البوذية

واكتسب الأخير ويدعى «شاونر» الذي يقوم بدور كاهن في معبد «نجتشوان» في ضواحي بكين، سمعة كبيرة، لاسيما على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يستطيع الذى طوره مهندسون يعتمد المعبد على خدماتهم، الإجابة على أسئلة قصيرة حول البوذية، ويبدو في صورة كاهن صغير ممسكا بشاشة حاسوب تعمل باللمس.



وكانت الفتاة «جيا جيا» التي قامت بتطويرها جامعة العلوم والتكنولوجيا بمقاطعة «إنهوي»، أكثر روبوت لفت الأنظار في الآونة الأخيرة بعد عرضها في «منتدى تيانجين» الاقتصادي العالمي، الصيف الماضي.



وبدت الفتاة بوجه وملمس إنساني بحت بصورة وصفت بأنها ستعيد تعريف الروبوتات لصعوبة تمييزها عن الإنسان العادي، ومنذ إطلاقها في أبريل، حملت لقب «آلهة الروبوتات» لجمعها بين الجمال الإنساني وقدرة التعلم العميق.



ويتوقع مدير فريق تطويرها «تشن شياو بن»، أن تعمل في دار مسنين في المستقبل، وتستطيع «جيا جيا» التفاعل مع البشر بالكلمات وتعبيرات الوجه.



الخدمة في دار المسنين

وإضافة إلى المواقع السابقة، دخلت «الروبوتات» الخدمة في المستشفيات لمساعدة الأطباء والممرضين في إجراء عمليات الولادة، وشاركت مؤخرا في «هانجتشو» دفعة جديدة من الروبوتات في خدمة المقيمين بدار مسنين، والقيام ببعض الوظائف الذكية، وبلغ ارتفاع الروبوت 0.8 متر، و وزنه 15 كجم، ويمكن الاستعانة بخدماته لـ72 ساعة متواصلة.



وفي صناعة الترفيه، حجزت «الروبوتات» أيضا مكانا لها بعد أداء 1007 روبوتات أطول فترة رقص في «شاندونج»، مؤخرا لتزداد تلك المساحة التي سلبتها الروبوتات من الإنسان.



ولم يكن المجال العسكري بمنأى عن هذا التطور، ففضلا عن الطائرات بدون طيار، التي باتت الصين تحظى فيها بحصة سوقية عالمية كبيرة، كشفت الصين مؤخرا عن روبوتات هجومية بمعرض بمدينة «تيانجين» الساحلية شرقي البلاد بما في ذلك آلة بحجم لعبة أطفال تحمل البنادق وتلقي القنابل على خطوط الجبهة.



وكان هذا الروبوت واحدًا من ضمن 3 روبوتات طورتهم الصين للاستخدام في عمليات مكافحة الإرهاب، أحدها يستطيع أن يقوم بعمليات استطلاعية مبدئية ويمكنه اكتشاف الغازات السامة والمواد الكيماوية والمتفجرات وينقل البيانات للجنود.



وأحدث «روبوت» أنتجته الصين هو الرجل الحديدي «ايدير» الذي ازيح الستار عنه في «تشنجدو» بمقاطعة «سيتشوان»، ويضاهي الروبوت «الرجل الحديدي» في الفيلم الهوليودي الشهير من حيث وظائفه وهو أول هيكل خارجي تنتجه الصين، ما جعلها الرابعة عالميًا في هذه التكنولوجيا المتقدمة.



ويجمع «ايدير» الذي طورته جامعة «تشنجدو» للعلوم الإلكترونية والتكنولوجيا بين القوة البدنية والذكاء البشري، ويساعد على جعل مفاصل الإنسان تعمل بكل حرية، و سيكون مهما جدا للأشخاص الذين يحتاجون إلى المساعدة في مراكز التأهيل ويعانون من صعوبات في المشي.

محرك الثورة الصناعية الثالثة



وتتمتع صناعة الروبوتات في ثاني أكبر اقتصاد في العالم بحيوية كبيرة بفضل حوافز الحكومة من ناحية، و تعويلها على الروبوتات كمحرك رئيسي للثورة الصناعية الثالثة.



وتحظى العملية باهتمام رسمي رئيسي منذ عام 2014، عندما ذكرت الحكومة لأول مرة الروبوت في تقرير الحكومة في سياق سعي البلاد لتحقيق طفرة كبرى في مجال الحوسبة الفائقة و الروبوتات الذكية، ضمن ما سمته بالتحديث التكنولوجي، وخصصت الحكومة المليارات للبحث والتطوير.

«إنه مثل نهر يجري لا يمكن إيقافه أو جيش يغزو»، هكذا وصفت «شياو لوه»، أم وموظفة بهيئة حكومية في بكين، التسلل الهائل للروبوتات إلى الحياة اليومية للصينيين.



وأرجعت «لوه» الغزو الكبير لـ«الروبوتات»، قائلة: «أرى ذلك يعود بالأساس إلى نضج الأسس التكنولوجية الحديثة للصين».



وتقول «لوه»، إنها شخصيًا تستخدم الروبوتات في المنزل في الطبخ والتنظيف ومهام أخرى مثل غيرها من المرأة الصينية الحديثة.



وقالت لـ«النبأ»، وهي تشير إلى طريقة استخدامها:«إنني استخدم آنية للطبخ تعمل آليا أضع فيها مكونات الطعام.. واضغط على الزر وتقوم هي بخلط المكونات والطبخ نفسها بنفسها، بينما يقوم إنسان آلي آخر بتنظيف المنزل».



وترى «لوه»، إن هذه الروبوتات لا غضاضة على الإطلاق من وجودها، إنها يسرت الحياة بشكل كبير وتناسب إيقاع الحياة السريع الذي تشهده الصين، وتابعت مفتخرة بصناعة بلدها: «إعداد الطعام في الصين الآن لا يأخذ أكثر من دقائق معدودة على أصابع اليد الواحدة، لم يكن أي أحد يتوقع أن يحدث ذلك قبل فترة قصيرة».



وبدأت الروبوتات تأخذ أدوارا متزايدة من الخدمة في المصانع والتطبيقات المنزلية إلى العمل كمدرسين ومرشدين للصغار والكبار وحتى الخدمة أيضا كشريك عاطفي للقلوب الوحيدة.



وفي ظل التطور السريع في نظام التقاعد في الصين زادت أهمية الروبوتات في بلد يتجه نحو الشيخوخة ويريد أن يواصل مهامه في المستقبل لجني الإيرادات وتعزيز الإنتاجية.



وبدأت الصين متأخرة عن جارتيها اليابان وكوريا الجنوبية في هذا المجال، استجابة لتعليمات القيادة الصينية بضرورة تحسين الإنتاجية والانتقال إلى اقتصاد قائم على الجودة العالية.



وباتت «الروبوتات» المحلية بعد سياسات محفزة، شجعت على تسجيل أكثر من ألف شركة جديدة عام 2015.



وتقود تلك الجهود المحلية شركات صينية كبرى مثل «جي اس كيه»، و«سي ان سي»، و"شانغهاي سياسون روبوت اند اوتوميشن" التي تطور سلسلة متنوعة من الروبوتات للاستخدام في المصانع.



إمكانيات هائلة

وتشير الأرقام الى أن الصين لا تزال متخلفة بالنسبة لليابان وكوريا الجنوبية، إذ يوجد في الصين 36 «روبوتا» لكل 10 آلاف عامل صناعي مقارنة بـ315 روبوتًا في اليابان، و478 روبوتا في كوريا الجنوبية.



وتحاول بكين «ردم» هذه الهوة بخطى جريئة من خلال رفع عدد الروبوتات بالنسبة لعدد العمال إلى أكثر من 150 بحلول عام 2020، وبيع 100 ألف روبوت منتج محليا في نفس العام.



ووفقًا للاتحاد الدولي للروبوتات، فإن الصين أصبحت أكبر سوق في العالم للروبوتات الصناعية منذ عام ،2013 وشكلت المصانع الصينية 25 % من الروبوتات الصناعية في العالم في عام 2014 بزيادة 54 بالمائة عن العام السابق، واشترى المصنعون الصينيون في العام الماضي 68 ألف روبوت من جملة 248 ألف روبوت صناعي تم بيعها في العالم.



وفي ضوء الهيكل الصناعي الضخم للصين، يرى الخبراء إمكانيات كبيرة للزيادة، وتوفر استراتيجية صنع في الصين 2025، التي أعلنتها بكين العام الماضي للمصنعين مليارات «اليوانات»  للتحديث التكنولوجي بما في ذلك المعدات المتقدمة والروبوتات.



وخصصت مقاطعتا «قوانجدونج»، و«تشيجيانج»، 150 مليار دولار على الترتيب للسنوات الخمس القادمة لتزويد المصانع بروبوتات صناعية.

ومن بين العوامل التي تشير إلى مواصلة زخم صناعة الروبوتات في الصين مستقبلا وفقا للخبراء العدد الكبير لخريجي كليات الهندسة والعلوم والتكنولوجيا كل عام، إذ تأتي الصين في المرتبة الثانية بعد الهند.



فضلا عن ذلك، التغير الذي شهدته البلاد في التركيبة الديموغرافية بسبب اتباع سياسة الطفل الواحد على مدار العقود الثلاثة الماضية والتي بدورها أدت إلى نقص العمالة وغيرت من طريقة تفكير أرباب العمل تجاه العمال، ولاسيما في ضوء الارتفاع المتزايد في الأجور سنويا بنسبة 15 بالمائة منذ عام 2000.



ومن المتوقع أن تنكمش الفئة العاملة من السكان بنسبة 16 بالمائة بحلول عام 2050.



وتبرز الأفاق الواسعة كمثال في تنبؤات شركة "فوركاست انترناشيونال" بإنتاج شركة صناعة الطيران الصينية المملوكة للدولة طائرات بدون طيار بقيمة 6 مليارات دولار بحلول عام 2023 ما يشكل نصف السوق العالمية لهذا النوع من الطائرات.



مخاوف متزايدة

غير أن التطور في استخدام وإنتاج الروبوتات الصناعية يثير مخاوف متزايدة، فقد بدأ البعض يشتكي من فقدان الوظائف جراء تسارع وتيرة استخدام الروبوتات في المصانع وتعزيز استخدامها في قطاع الخدمات مؤخرًا.



ويشير الخبراء، إلى أن الروبوتات مثل القطار السريع لا يمكن لأحد إيقافها الآن؛ بسبب ارتفاع أجور الأيدي العاملة، وتطلعات الشركات إلى تحقيق المزيد من الأرباح.



وتوقعت دراسات أجرتها مؤسسات مستقلة دولية مثل «سيتي»، أن 75 % من الوظائف في الصين معرضة وبالتالي استبدال العمال بروبوتات.

ويتوقع أن تحل الروبوتات محل 3.5 ملايين عامل في الصين خلال السنوات الخمس المقبلة.



لكن وسط هذا الجو المتشائم، يأتي تقرير أصدره بنك الشعب الصيني في سبتمبر الجاري مطمئنا بالنسبة لسوق الوظائف، إذ بلغ مؤشر التوظيف في الربع الثالث من العام الجاري 37.1 %، ويتوقع أن يزيد في المرحلة القادمة إلى 46.4 %.



ويرى المؤيدون للتسارع، أنه على المدى الطويل سيساعد في الاتجاه الجديد نحو «الروبوتات» على رفع الإنتاجية، وتحسين بيئة العمل، وتغيير هيكل التوظيف.