رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

المذيعة.. و«طفل بورسعيد»!

خالد سيد أحمد
خالد سيد أحمد


ينبغى التوقف جيدا أمام هذا التعاطف الكبير، مع حالة الطفل الذى ضبط متلبسا بتهريب البضائع الأجنبية غير خالصة الرسوم عبر المنافذ الجمركية بمحافظة بورسعيد، لانها تحمل دلالات وإشارات ورسائل غاية فى الخطورة لما هو قادم، وتدق أجراس الإنذار بشأن تداعيات الوضع الاقتصادى الصعب الذى وضع قطاعات عريضة من المواطنين على «حافة اليأس والإحباط».

القصة بدأت عندما نشرت الصفحة الرسمية لمحافظة بورسعيد على موقع التواصل «فيس بوك»، فيديو لاحدى المذيعات تقوم بإجراء لقاءات مع عدد من الأطفال الذين جرى ضبطهم أثناء قيامهم بتهريب البضائع الأجنبية، لكنه بدا وكأنها تستجوبهم بحدة بالغة ومنطق ضعيف مغلف بمبادئ ونصائح قد يراها البعض زائفة، خصوصا مع طفل يدعى محفوظ دياب، القادم من محافظة سوهاج، وهو ما أدى إلى حدوث حالة من التعاطف مع هؤلاء الأطفال الذين اعتبرهم الكثيرون ضحايا لا مجرمين.

أحد النشطاء على مواقع التواصل، وجه رسالة إلى رجل الأعمال الشهير نجيب ساويرس، قال فيها «الأولاد دول رجالة.. لو تقدر توفر لهم أى وظيفة يأكلوا منها لقمة عيش حلال يصرفوا بيها على أنفسهم وعلى أهاليهم يبقى حاجة محترمة منك»، ليرد عليه ساويرس: «بالضبط كده.. بيحصل دلوقتى وبعتلهم محامى للتصالح مع الجمارك والإفراج إن أمكن علشان نوظفهم».

لماذا تعاطف الكثيرون مع هؤلاء الاطفال رغم انهم كانوا يقومون بعمل غير شرعى ومجرم قانونيا؟ هناك اسباب كثيرة تقف وراء ذلك، أهمها ان المذيعة التى قامت باجراء لقاءات مع هؤلاء الاطفال، تخلت تماما عن الدور الحقيقى الذى ينبغى ان يقوم به الإعلام، وهو البحث عن الحقيقة والوقائع والملابسات، التى دفعتهم إلى سلوك هذا الطريق الخطأ، واكتفت بان تكون جلادا للجهة التى تمثلها وحكمت عليهم بالادانة حتى قبل ان تعرف الاسباب التى وضعتهم فى مثل هذا المأزق.

كذلك ما ولد هذا الاحساس بالتعاطف مع هؤلاء الاطفال، هو شعور الجميع تقريبا، بأن قدرتهم على تحمل تفاقم الأوضاع المعيشية والارتفاع الرهيب فى أسعار جميع أنواع السلع الاساسية والخدمات، قد شارفت على النفاد تقريبا، وبالتالى اذا لجأ البعض منهم إلى مثل هذه الوسائل غير القانونية لكى يظل حيا ويتمكن من اطعام اسرته فلا تثريب عليه.

ايضا يكشف هذا التعاطف عن أن خوف المواطنين من «القبضة الأمنية»، التى تلاحق كل من يخرج عن النص، قد بدأ فى التلاشى مع زيادة الضغوط الاقتصادية التى تدهس فئات كبيرة جدا فى المجتمع، ولم تعد الاتهامات الجاهزة بالانتماء لـ«أهل الشر» الذين يريدون تخريب المسيرة وهز استقرار البلد، تقف حائلا أمام قيام البعض بالتعبير عن رفضهم للتدهور الحاد فى مستوى المعيشة، ومحاولة الحصول على ما يعتقدون انه «حق لهم»، حتى لو تم ذلك بطريقة مخالفة للقانون.

يضاف إلى ذلك ان هذا التعاطف اثبت ان المحاولات الحكومية اليومية للرهان على قدرة الشعب على التحمل والصبر، حتى يتم عبور هذه المرحلة الصعبة، لم تعد تجد تفهما أو تلقى قبولا كبيرا من قبل العديد من المواطنين، الذين يعتقدون انهم هم من يدفعون وحدهم فاتورة هذه السياسات الاقتصادية المؤلمة، فى ظل غياب عدالة حقيقية فى توزيع الأعباء على الجميع، خصوصا القادرين والميسورين وأصحاب الثروات الضخمة.

واقعة طفل بورسعيد يجب ان تدق ناقوس الخطر للحكومة وللإعلام.. فالأولى مطالبة بضرورة إجراء تغيير جذرى فى بوصلة توجهاتها وسياساتها الحالية، وأن تعلن بوضوح عن انحيازها للطقبات الكبيرة التى مسها خط الفقر، وتؤكد استعدادها لتطبيق سياسات اقتصادية جديدة أكثر عدلا فى توزيع أعباء الإصلاح الاقتصادى.. والثانى وهو الإعلام ينبغى عليه الا يتحول تدريجيا إلى مجرد بوق يردد كلاما أجوف عن الحلال والحرام.. الصح والخطأ.. أو يردد نغمات الوطنية الزائفة، التى لا تجد آذانا صاغية عند من مسهم الجوع والفقر.