رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

(أنا تالتة إعدادى يا عمو)

عبد الناصر سلامة-
عبد الناصر سلامة- أرشيفية


اتصلت هاتفياً بصديقى، مدير عام فى إحدى المصالح الحكومية بالمحلة الكبرى، ردت ابنته، والتى بدا أنها طفلة فى مرحلة دراسية مبكرة، سألتها: لماذا لم تذهبى إلى المدرسة اليوم؟ كانت الإجابة غريبة جداً: «أنا فى تالتة إعدادى يا عمو»، قلت: حسناً، هل المدرسة إجازة؟ قالت: لا، ولكن أنا فى تالتة إعدادى، قلت: لا أفهم، قالت: «تالتة إعدادى زى تالتة ثانوى، مفيش مدرسة»، تخيلتُ على الفور أن هناك حلقة مفقودة، هناك أمر ما غامض، سوف أستوعبه من خلال الكلام مع والدها بالتأكيد، قلت: أود الحديث مع بابا.

دار هذا الحوار أيضاً، لماذا لم تذهب ابنتك إلى المدرسة، كانت الإجابة الغريبة نفسها، والتى تبدو أنها طبيعية: لأنها فى تالتة إعدادى، قلت: ممكن توضيح أكثر، ماذا تعنى بأنها فى تالتة إعدادى بالتالى لا تذهب إلى المدرسة، قال: عندنا طلاب تالتة إعدادى وتالتة ثانوى، خاصة فى المدارس الحكومية لا يذهبون إلى المدارس طوال العام الدراسى، قلت: وكيف يتحصلون على المنهج الدراسى، قال: من خلال الدروس الخصوصية على مدار العام، قلت: وإذا كانت ظروف ولى الأمر المادية لا تسعفه لمثل ذلك فى وجود أكثر من طفل، قال: هذا أمر واقع لا يقبل النقاش، بمعنى أن ظروفه إذا كانت كذلك فعليه أن يسحب أبناءه من التعليم لعدم الاستطاعة، سؤال آخر: هل هذا الكلام فى محافظة الغربية فقط؟ قال: لا أدرى، ولكن بجوارنا محافظة الدقهلية أيضاً أعلم أنها كذلك.

المهم من خلال الحديث فهمت أيضاً أنه لا يوجد أى نوع من الغياب والحضور للتلاميذ، بمعنى أن التلميذ لن يضار بأى شكل من الأشكال نتيجة الغياب طوال العام، الأمر الآخر الذى فهمته أيضاً هو أن المدرسين فى كل مدرسة يتصارعون فيما بينهم للحصول على جدول العمل بالصف الثالث الإعدادى والصف الثالث الثانوى، ذلك أنه سوف يضمن عدم العمل بالمدرسة طوال شهور الدراسة، لن يكون مطلوباً منه سوى إثبات الحضور والانصراف، بخلاف أنه قد ضَمِن التفرغ للدروس الخصوصية على مدار شهور السنة.

فى نهاية الحديث وجدت صديقى هو الذى يتساءل: لاحظتُ أنك تستفسر كثيراً حول هذا الموضوع، هل تنوى الكتابة فيه أو حوله، قلت: بالتأكيد هو أمر يستحق، فكان التعقيب الأكثر صدمة، قال: لا أنصحك بذلك، لأن الأمر أكبر بكثير من مجرد الكتابة، سوف تتناول غياب التلاميذ، أم غياب المدرسين، أم عدم صلاحية الفصول، أم فوضى المدرسة بصفة عامة، أم المناهج الدراسية التى عفى عليها الزمن، أم الكتاب الدراسى الذى لا يفتحه التلميذ طوال العام، اعتماداً على الكتب الخارجية، على الرغم من أن الدولة تنفق كل عام على طباعة الكتاب الدراسى مليارات الجنيهات، أم أنك سوف تتناول الدروس الخصوصية التى تستهلك معظم دخل الأسرة، أم سوف تتحدث عن مستقبل التلاميذ بعد التخرج، والبطالة التى تنتظرهم، وها هم فى كل مكان بالشوارع؟!

خلال لحظات معدودة، وجدت نفسى أمام كارثة بالفعل، لا تجدى معها لا الكتابة ولا القراءة، كارثة تحتاج بالدرجة الأولى إلى إرادة فى التعامل معها، لا أكثر من ذلك ولا أقل، تكون هناك نية للحل، ذلك أنه مازال بيننا من لا يستوعبون أن إهمال العملية التعليمية هو سبب كل بلاء وشقاء المجتمع، هذا النوع من التعليم هو الذى أفرز لنا الطبيب الفاشل، والمهندس المرتشى، والإدارى المترهل، والمدرس الضعيف، والإعلامى الأمنجى، والضابط المتجاوز، إلى غير ذلك من كثير، بخلاف تربية كل هؤلاء مبكراً على التنطع والتسكع والغش والمحسوبية والترهل وعدم الإتقان فى كل شىء وأى شىء، ناهيك عن فقدان الانتماء.

السؤال الذى يطرح نفسه بشدة الآن هو: لماذا نتحدث كثيراً عن تحسين أجور المعلمين فى ظل استمرار هذه الأوضاع، لماذا نتحدث عن الارتقاء بهم مادياً فى الوقت الذى يعانون فيه من ضعف مهنى أيضاً، مادام هذا حال العملية التعليمية التى كانوا طرفاً فيها بكل مراحلها، لماذا يتم الإنفاق على بناء مدارس، والحديث عن خفض كثافة الفصول، فى الوقت الذى لا يذهب فبه التلاميذ إلى المدارس أصلاً، من المسؤول عن ذلك الذى يجرى، لماذا لا تتم محاكمة كل وزراء التعليم الحاليين والسابقين، الذين أصبحت هذه الحالة عُرفاً أو تقليداً معمولا به فى ظل قيادتهم للوزارة؟ كثير من الأسئلة لن تجد إجابات فى ظل عدم الاعتراف بأولوية العملية التعليمية عن أى شىء آخر.

بناء الإنسان أيها السادة يجب أن يتصدر الأولويات قبل أى بناء أسمنتى، بناء التلميذ هو البداية الحقيقية لأى بناء آخر، بناء التلميذ صحياً وتعليمياً وثقافياً وأخلاقياً يحتاج إلى كثير من الجهد، جهد الدولة، وجهد الأسرة، وجهد المجتمع، الدروس الخصوصية لا تقيم مجتمعات أبداً، العكس هو الصحيح، أذكر أننى سألت ابنى ذات يوم، وكان طفلاً، عن توجيهات معلمة الدرس الخصوصى، وماذا استفاد منها على المستوى الشخصى، كانت الإجابة كارثية، بكل بساطة أجاب قائلاً: الكذب!! هكذا قال: تعلمت منها الكذب، ذلك أنها تؤكد وتُذكِّرنى فى كل مرة بألا أُخبر أحداً بأننى أحصل على درس خصوصى لديها، وقالت حينما ترانى فى المدرسة أو الفصل لا تخاطبنى، ادّع أنك لا تعرفنى ولا تعرف اسمى!!

يبدو أننى كان يجب أن أذعن إلى نصيحة صديقى المحلاوى، لا تكتب، ولا تجهد نفسك، الموضوع أكبر مما تتخيل، مفيش فايدة.

نقلًا عن «المصري اليوم»