رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

"الشعب يريد".. درس 25 يناير المتجدد

السيد الشامي
السيد الشامي

ليس من باب التمنّي ولا الخيال القول بأن 25 يناير/كانون الثاني ربيع لن ينتهي ودرس يتجدد، وذاكرة لن تموت، وليس مجرد حدث أو أحداث انتهت، ولم تعد لها أي رصيد أو واقع على الأرض، أو في الفكر والوجدان، كما في عالم السياسة والتحولات الكبرى في تاريخ الأمم والشعوب.

 

ما زالت ثورات الربيع تسطر لبداية تاريخ جديد تكتبه الشعوب بدماء شهدائها وصمود أبطالها في زنازين الطغيان، فلم تسلم الراية، ولم تقبل الدنيَّة، ولا نزلت على رأي الفسدة، ولم تفرط في أرض، ولم تساوم على حرية الأوطان وتحرير الشعوب بمواقع أو ترتيبات تضمن لها مساحة في منظومة الاستبداد والفساد.

 

ولعل ضجيج إعلام الثورات المضادة يحاول طمس تاريخ ارتبط بثورة شعوب راهنت على نفسها، حين أعلت إرادتها، وأملت مطالبها، واستطاعت خلع رؤوس طالما جثمت على أنفاس شعوبها في تونس ومصر وليبيا واليمن، وأرعبت رؤوساً أخرى استيقنت أن الدور آتٍ عليها لا محالة، فبذلت المال والدعم لتظل شعلة النار بعيدة عنها، وهي آتية عليها يوماً ما.

 

ستظل ثورات الربيع العربي فعلاً شعبياً بامتياز، مهما روَّج أعداؤها بأنها مؤامرة أو إملاء من هنا أو هناك، وهذا ما ينبغي التذكير به والتأكيد عليه دوماً؛ لأنه لا ثورة من دون شعوب، ولا شعوب حية من دون ثورة تدافع عنها، وتفتديها بالنفوس والعقول والبرامج والبدائل، كما تقاوم في سبيل بقائها في بؤرة الميادين والشوارع، كما في منصات الإعلام ومراكز البحث وصناع القرار في الداخل والخارج.

 

ربيع الشعوب ما زال يزهر وعياً بحجم التحديات وضخامة المطلوب تغييره، وقناعات بضرورة العمل المشترك والتحالفات الواسعة، وتكامل الداخل والخارج، وضرورة إعداد البدائل والكوادر من خلال مشاريع وطنية في كل بلدان الربيع ينضوي تحت لوائها كل قوى الأمة التوَّاقين إلى التحرير والحرية.

 

وعلينا أن نتذكر أن مليارات أُنفقت، وسياسات ماكرة حِيكَت ودُبّرت من أجل إطفاء جذوة ثورة الشعوب، ولم تستطِع، وإن كانت كسبت جولة، فالغضب يزيد، والفشل والفساد والخيانة والتفريط في الموارد والمقدرات وتقديم الدور والوظيفة ما زالت هي دابة الثورة التي تأكل منسأة أنظمة الفساد والقهر، فتجعلها تخر مستسلمة أمام ضربات عِصيّ الشعوب وهديرها الدائم بالحرية.

 

إننا حين ننقد رهانات خاسرة راهنت عليها قوى الثورة فلسنا بذلك نقول: قُضي الأمر، واستوت الأنظمة على جودي الشعوب، وإنما نقول ذلك لتصحيح الخُطة، وتحديد البوصلة نحو الهدف، وهو جزء مهم في التخطيط لاستكمال الملاحم الثورية.

 

ولعل الإنجاز الأكبر لثورات الشعوب في تقديري هو تجاوز النخب القديمة وقادة الرأي ممن ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا مع الخوالف، وتبعاً ذليلاً لأنظمة تلقي إليهم بالفتات من ذهبها، وتلوح لهم بالكثير من سيوفها، ريثما تظل في بيت الطاعة لا تخرج عن المرسوم، وتستدعي في الوقت والمكان اللذين تريدهما، كما لم تعُد الشعوب ذلك الطفل الذي ينتظر التوجيه من الأستاذ والمعلم، وإن كانت في الوجه المضيء أبرزت نخباً جديدة أكثر وعياً وأصلب عوداً وأكثر حنكة وحكمة، وما زالت الثورات ولّادة تفرز قادتها ونخبتها ورموزها بطريقتها التي تجعل منها وبحق أيقونات التغيير وفرسان المرحلة ورجالها دون منازع.

 

والعمل الأوجب في تلك المرحلة أن تظل إرادة الشعوب هي المنطلق والمرجعية، وهي الهدف الأعلى لتحقيق أي مشروع تغييري، فمن دون هذه الإرادة يكون الضعف، وتكون المراهنة على غير القوة الذاتية، وتكون التبعية في القرار والمواقف، كما في الفكر والنموذج، والإرادة الشعبية التي نعنيها هي العاصم من كل تغوُّل أو هيمنة من أي سلطة كانت، سياسية أم دينية أم إعلامية، وهي التي تصوب الخطة، وتجعل الكلمة العليا للأغلبية، وليس لحكم الأقليات.

 

الثورات المضادة على مدار التاريخ هي ثورة الأقليات على إرادة الشعوب وحكم الأغلبية، وكل جهد يبذل في مسار استعادة الإرادة الشعبية بالتوعية والتربية وبالفكر والسياسة مهم ومطلوب، وهو عمل بطبيعته كبير ومستمر، ليس هِبة أو جولة، وليس مظاهرة أو حملة في الإعلام، وإنما جهد ينتظم فيه المجموع في كل المجالات وبكل الموارد والمقدرات.

 

كثيراً ما تستهوينا الأعمال التي لها طابع دعائي وحضور إعلامي، حتى لو كانت معدومة الأثر، قليلة النتائج في مشروع التغيير، الذي هو بطبيعته يشتغل على العقل والوجدان، كما النفس والفكر والمشاعر، وهي الحواضن الأساسية لأي عمل تغييري مستدام، وليس مؤقتاً.

 

ولذلك فإن على قوى التغيير أن تستلهم في دورتها التغييرية القادمة ثقافة العمل المؤثر لا الدعائي، والإقناع لا الفرقعة، والشعبية لا النخبوية، والبساطة والمباشرة والعملية لتنفذ إلى عمق الحاضنة الشعبية التي لا يعنيها تعقيد الكلمات ولا ضخامة السياسات وأحاديث الاستوديوهات، بقدر ما يعنيها تبنّي قضاياها وهمومها اليومية، وعمل شيء مؤثر ينفعها، ويمكث في الأرض.

 

الإرادة الشعبية، وإن كانت بطبيعتها تؤثر فيها العاطفة، ويسهل التأثير فيها من خلال الإعلام، كما يسهل حشدها وتعبئتها، إلا أن الفعل الأصعب تنظيم تلك الجموع في مشاريع حتى لا تظل سائبة لا تأثير لها في مسار الدفاع عن حقوقها ومطالبها، ومن ثَمَّ فإن تكتيل الجموع في كتل وجبهات وتنظيمات سياسية أو اجتماعية هو الفعل الأكثر أهمية وتأثيراً في صناعة حاضنة مجتمعية تعبر بشكل حقيقي عن الإرادة الشعبية التي لا يستطيع نظام أو أقلية سياسية أو اقتصادية أو إعلامية ترويضها أو التلاعب بها.

 

"الشعب يريد" كان شعاراً عبقرياً عبَّر بسهولة وإبداع عن فلسفة التغيير ومقاصده، فلا شعوب من دون إرادة تعبر عنها وتملي مطالبها، وتنزل على حكمها كل الأقليات، وتغييب الشعب ممثلاً في إرادته هو بداية التغول والهيمنة من قِبل الأقليات والمافيات التي تريد وتعمل على تحييد وتغييب بل وسحق هذه الجموع، وإخراجها من معادلة التغيير، وإبقاء المعركة بينها وبين بعض القوى التي تجرب فيها كل خطط القمع وسياسات الترهيب حتى يتعظ الجموع بها، ولذلك فإن استعادة وحضور الإرادة الشعبية في معركة التغيير مهم لقوى التغيير في إنجاز مشروعها التغييري الذي يستهدف بالأساس تحسين أحوال وحياة الشعوب، واحترام اختياراتهم.

 

ستظل إرادة الشعوب هي ستار القدرة الإلهية لتحقيق أية تحولات كبرى في حياة الأمم يكتب لها البقاء والاستقلال عن كل محاولات التطويع والتمييع؛ لأنها مِن إرادة الله الذي كتب ألا يكون البقاء إلا لما ينفع الناس ويمكث في الأرض.

نقلًا عن موقع هافنغتون بوست عربي