رئيس التحرير
خالد مهران
count
count

غدًا الاحتفال باليوم العالمي لها.. اللغة العربية والهوية الثقافية

 د. محمد الطاهر أحمد
د. محمد الطاهر أحمد


خلق الله بني آدم، وحملهم في البر والبحر، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا، وجعل اختلاف ألسنتهم آية، وسببا في التواصل بين الجماعات البشرية. وقد كرم الله العرب، ووهبهم لسانا عربيا مبينا أنزل به خير كتبه "القرآن الكريم"، وجعل كتابه العزيز حافظا لهذه اللغة من العبث والتغير والتبدل والضياع مثلما حدث مع لغات كثير من الأمم السابقة التي أصابتها عوامل التدهور والانقراض اللغوي أحيانا.



وقد كانت اللغة العربية – ولا تزال – عاكسة لطبيعة الشعوب الإسلامية التي تتحدثها بعامة والشعوب العربية بخاصة؛ فهي التي تعبر عن مكنون الهوية العربية والشخصية الأصيلة التي تميز بها العرب منذ القدم، وهي التي كتب بها موروث هذه الأمة الحضاري والثقافي، وهي التي تعكس الطبيعة الاجتماعية للشعوب العربية التي وحدها الله بدين واحد ولغة واحدة.


ومن ثم فإن الحفاظ على اللغة العربية هو حفاظ على هوية هذه الأمة، وحفاظ على تراثها وحضارتها التي أبهرت الأمم في العصور الوسطى، كما أن الحفاظ على اللغة من عوامل التبدل والتغير والاختلاط هو وسيلة مثلى لتحقيق التواصل الفعال بين الشعوب العربية في بلدانهم ومواطنهم.



وتزداد هذه الأهمية في عالمنا اليوم مع ازدياد الهجمات الثقافية واللغوية على لغتنا العربية، وهي هجمات شرسة تحاول تغريب العربية بين أهلها، والنيل منها بوسائل قد أبهرت شباب اليوم من العرب وجعلتهم لا يدركون أبعادها الخبيثة.



ومن أهم الوسائل التي اتخذها المغرضون للنيل من العربية ومحو الهوية الثقافية للأمة: إشاعة مفاهيم خاطئة انتشرت بين شباب العرب منها: أن العربية ليست سوى لغة المتأخرين ثقافيا وأن التحدث بألفاظ وعبارات أجنبية هو من قبيل التمدن والتطور؛ وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى شيوع عدد كبير جدا من الألفاظ الدخيلة والمعربة في لهجاتنا العامية، ولا زال كثير من الشباب يظنون أن استخدام البديل الأجنبي للفظ العربي هو من قبيل الأناقة اللغوية الضرورية في عالم المعلوماتية والحضارة الزائفة.



ومن الوسائل الأخرى: محاولة طمس أهمية العربية باستبدال لغات أجنبية بها في التدريس والتعليم، وانتشار مدارس اللغات الخاصة التي يهرول إليها الآباء والأمهات لإلحاق أبنائهم بها ظنا منهم أنهم في هذه المدارس سيتعلمون بلغات الحضارة ويتمدنون ثقافيا بعيدا عن المدارس الحكومية التي تدرس المقررات الدراسية باللغة العربية التي لا تجد لخريجيها عملا متميزا في عالم صار الاعتراف فيه بلغة الآخر وتقديمها على العربية من قبيل التمدن.



وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في هذه الهجمة الشرسة على اللغة العربية وهوية الأمة الثقافية؛ وذلك من خلال إحلال اللغة الفرانكوعربية محل اللغة العربية في الكتابة، وهي الطامة الكبرى التي أصابت كثيرا جدا ممن يتواصلون على الفيس بوك أو غيره من وسائل التواصل الاجتماعي ظنا منهم أن الكتابة بهذه الحروف اللاتينية هو من باب الثقافة والتميز، وأن من يكتبون بالحروف العربية هم من المتأخرين المتخلفين بعيدا عن ركب الثقافة والتطور.


ولعل هذا المدخل هو ما دخل منه المغرضون إبان سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا؛ وذلك بتتريك الدولة وإحلال الحروف اللاتينية محل الحروف العربية في كتابة الكلمات التركية؛ وهو ما أبعد الأتراك لعقود عن هويتهم الإسلامية وإخوانهم العرب، وأدى بشكل مباشر إلى تغريب الدولة التركية.



إن الحفاظ على العربية من الضياع والتغريب في عالمنا اليوم هو فرض عين على كل مسلم وكل عربي؛ لأنها لغة الأمة وعنوان حضارتها ومحور ثقافتها وجوهر هويتها، وضياع العربية هو ضياع لهوية الأمة واندثار لثقافتها؛ ومن ثم فإن علينا أن نعي جيدا خطورة هذه الهجمة، وأن ندرك أن ما تتعرض له العربية من هجمات إنما هو مدخل للقضاء على الأمة بأكملها ومحو هويتها وتحويلها إلى أمة ممسوخة لا هوية لها ولا عنوان، وإن الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية لا يكتمل إلا باتخاذ التدابير اللازمة لوقف هذا الهجوم وإعادة العربية بين أهلها إلى موضعها اللائق ومكانتها التي تستحقها بوصفها أفضل لغات العالم وأكثرها شمولا وأعمقها دلالة.